في عالمٍ تُسيطر عليه الخوارزميات، لم يعد البشر هم من يصنعون الترندات، بل أصبح “الذكاء الإصطناعي” هو من يوجّه الرأي العام، يخلق المحتوى، بل وحتى يُنشئ شخصياتٍ افتراضيةً لا وجود لها. الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة مساعدة، بل تحوّل إلى قوة خفية تُشكّل وعي المجتمع، تُزيّف الحقائق، وتُهدّد الأسس التي يقوم عليها العالم الرقمي.
فهل ما زلنا نتصفح الإنترنت، أم أن الإنترنت هو من يتصفحنا؟
خوارزميات الذكاء الاصطناعي.. صناعة الترندات وتوجيه الرأي العام
1. كيف تتحكم المنصات في ما نراه؟
تعتمد عمالقة التواصل الاجتماعي – مثل فيسبوك، تيك توك، إنستغرام، ويوتيوب – على أنظمة ذكاء اصطناعي متطورة لفرز المحتوى وتحديد ما يصل إلى المستخدم. لكن هذه الخوارزميات لا تعمل بطريقة محايدة، بل هي مصممة لتعظيم التفاعل والربح، مما يؤدي إلى:
– الفقاعات الرقمية: حيث يُحاصر المستخدم في بيئة من الأفكار المتشابهة، مما يعزز الانقسام ويُضعف الحوار المجتمعي.
– الترندات المُوجَّهة: ليست كل “مواضيع الساعة” عفوية، فبعضها مُصنّع بواسطة خوارزميات تروج لمحتوى يخدم أجندات معينة، سواءً تجارية أو سياسية.
– التلاعب النفسي: تُحلل أنظمة الذكاء الاصطناعي ردود أفعال المستخدمين وتعدّل المحتوى المعروض لتحقيق أقصى قدر من الإدمان الرقمي.
2. الانتقال من التحكم في المحتوى إلى التحكم في البشر
أصبحت المنصات قادرةً على توقع سلوكيات المستخدمين بدقة مذهلة، بل والتأثير في قراراتهم الشرائية أو حتى السياسية. ففي تقرير لـ “ذا جارديان” (2023)، كشفت وثائق داخلية عن أن فيسبوك يعلم أن خوارزمياته تعزز الكراهية، لكنه يستمر في استخدامها لأنها تزيد التفاعل!
الذكاء الاصطناعي وتصنيع الواقع.. خطر “التزييف العميق” والهويات الوهمية
1. ظاهرة “التزييف العميق” (Deepfake).. عندما يصبح الكذب واقعاً
بات الذكاء الاصطناعي قادراً على إنشاء فيديوهات مزيفة تبدو حقيقية بنسبة 100%، حيث يُظهر الشخصيات العامة أو حتى الأشخاص العاديين وهم يقولون أو يفعلون أشياء لم تحدث أبداً. وتكمن الخطورة في:
– تشويه السمعة: انتشار مقاطع مُفبركة لأهداف انتقامية أو تشويهية.
– التدخل في الانتخابات: كما حدث في انتخابات غانا 2024، حيث انتشر فيديو مزيف لمرشح رئاسي يتحدث عن تزوير الانتخابات، مما أثار فوضى سياسية.
– الابتزاز الرقمي: إنشاء صور أو فيديوهات إباحية وهمية لتهديد الضحايا.
2. الصفحات الوهمية.. عندما يخترع الذكاء الاصطناعي أشخاصاً لا وجود لهم!
لم يعد التزييف مقتصراً على المحتوى، بل امتد ليشمل اختراع شخصيات كاملة عبر الذكاء الاصطناعي، حيث:
– تُنشَأ حسابات لـ”مؤثرين” أو “خبراء” وهميين، تروج لأفكار أو منتجات دون أن يعلم الجمهور أنها غير حقيقية.
– تُستخدم هذه الحسابات في حملات التضليل، كما كشفت تحقيقات بي بي سي (2023) عن شبكة حسابات مزيفة تديرها دول لزرع الفتنة.
– بعض الشركات تستخدم “موظفين افتراضيين” في خدمة العملاء، دون الإفصاح أنهم روبوتات!
هل يفقد الإنترنت قيمته؟ مستقبل المنصات في عصر الذكاء الاصطناعي
1. انهيار الثقة.. العواقب الاجتماعية والاقتصادية
مع انتشار المحتوى المزيف، تواجه المنصات أزمة مصداقية غير مسبوقة، حيث:
– 38% من المستخدمين(حسب استطلاع لـ إدلمان 2024) لم يعودوا يثقون بأي فيديو أو صورة على الإنترنت.
– تراجع الإعلانات: بدأت علامات تجارية كبرى تقلص إنفاقها على منصات التواصل بسبب مخاوف من ظهور إعلاناتها بجوار محتوى مزيف.
– العزلة الرقمية: بعض المستخدمين يفضلون الابتعاد خوفاً من الاختراق أو التشويه.
2. هل هناك حلول؟
في مواجهة هذه المخاطر، تظهر بعض المحاولات، مثل:
– أدوات كشف التزييف: مثل تقنيات “Watermarking” التي تضع علامات على المحتوى المُنشأ بالذكاء الاصطناعي.
– تشريعات صارمة: كالقانون الأوروبي “AI Act” الذي يجرم استخدام الذكاء الاصطناعي في التضليل.
– صحافة التحقق: حيث تخصص بعض الوسائل الإعلامية فرقاً للتحقق من المحتوى الرقمي.
معركة الحقيقة في العصر الرقمي
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية، بل تحوّل إلى سلاح قد يُستخدم لخير البشرية أو دمارها. السؤال الأكبر الآن هو:
هل سنتمكن من الحفاظ على الحقيقة في عالمٍ تُسيطر عليه الآلات؟
الإجابة تعتمد على ما إذا كنا سننجح في:
– موازنة الابتكار بالأخلاقيات.
– تعزيز الوعي الرقمي لدى المستخدمين.
– فرض قوانين رادعة ضد إساءة الاستخدام.
فإما أن نتحكم في الذكاء الاصطناعي.. أو سيصبح هو من يتحكم فينا.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة