في مشهد يعكس مفارقة صارخة بين ما هو طارئ وما هو ثانوي، أصدرت بلدية بدنايل – قضاء الكورة – قرارًا يمنع بموجبه تربية الديكة في نطاقها البلدي، بسبب ما تسببه من “إزعاج” للسكان. القرار الذي حمل توقيع رئيس البلدية فقط، دون ذكر لمداولات مجلس بلدي أو لمرجعية صحية أو بيئية، يطرح إشكاليتين متوازيتين: الأولى تتعلق بحدود الصلاحيات الإدارية، والثانية تمس جوهر مفهوم الحقوق، ليس فقط للإنسان، بل حتى للكائنات التي تتشارك معنا هذا الحيّز الطبيعي.

من صلاحية أم من مزاج إداري؟
بحسب قانون البلديات اللبناني (المرسوم الاشتراعي 118/1977)، يمتلك رئيس البلدية صلاحية اتخاذ تدابير مستعجلة في حالات تمس بالصحة العامة أو النظام العام، ولكن تلك الصلاحيات يجب أن تُمارَس ضمن ضوابط:
- استنادًا إلى شكاوى موثقة أو دراسات.
- وبقرار صادر عن المجلس البلدي، لا بمبادرة فردية.
غياب أي إشارة إلى تقرير بيئي، أو إلى بيانات شكاوى رسمية، أو حتى إلى نقاش في المجلس البلدي، يجعل هذا القرار أقرب إلى مبادرة فردية ذات طابع تنظيمي مطلق، وهو ما يخالف التدرّج القانوني في اتخاذ القرارات المحلية.
في لبنان… حتى صوت الحيوان يُقمع؟
في بلد يفتقد سكانه إلى أبسط مقومات البيئة الصحية من بنى تحتية، وصرف صحي، ونظافة عامة، تبدو أولوية محاربة أصوات الديكة مثيرة للتساؤل، بل وحتى للدهشة. فهل بات الريف اللبناني، حيث تربية الدواجن جزء من النمط المعيشي الزراعي، يُدار بعقلية المدن الفاخرة التي ترفض أي صوت طبيعي؟ وكيف يصبح صياح الديك مصدر “إزعاج جماعي” بينما تنعدم الرقابة على مولدات الكهرباء، والمقاهي الليلية، والدراجات المعدلة ذات الضجيج المؤذي؟
حق الملكية مقابل “حق الراحة”؟
المفارقة تكمن في أن القرار يمنع المواطنين من تربية نوع محدد من الدواجن بشكل نهائي، وهو ما يصطدم صراحة مع مبدأ الملكية الفردية المكفول في الدستور اللبناني، ما لم يكن هناك مبرر صحّي طارئ. واللافت أن القرار لا يحدد ساعات صياح، ولا يشير إلى عدد مسموح، بل يفرض منعًا تامًا، وهو إجراء تنظيمي لا يملك رئيس البلدية صلاحية فرضه إلا بموجب قرار بلدي جماعي أو توصية من جهة صحية أو بيئية معترف بها.
الأولويات المقلوبة: عندما تُهدر الطاقات في التفاصيل
ما يثير الانتباه في هذا القرار ليس مضمونه فحسب، بل توقيته وسياقه. ففي ظل تفشي النفايات، وانعدام الكهرباء، وفوضى عمرانية واضحة في العديد من البلدات، تختار بلدية بدنايل أن توجّه مواردها الإدارية إلى مراقبة أقنان الدجاج. المسألة هنا لا تتعلق فقط بصلاحية أو لا صلاحية، بل بأولويات دولة أصبحت عاجزة عن ضبط التجاوزات الكبرى، وتركّز طاقاتها على تفاصيل لا تمس جوهر الحياة العامة.
القرار البلدي بمنع تربية الديكة في بدنايل، بصيغته الحالية، يفتح الباب أمام نقاش أوسع حول كيفية ممارسة السلطة المحلية، وحدودها، وما إذا كانت تُدار بمنطق القانون أم بمنطق الانزعاجات الشخصية. وهو أيضًا انعكاس لحالة غياب السياسات العامة المتوازنة في لبنان، حيث تُسلب الحقوق – حتى الطبيعية منها – باسم “النظام”، في وقت تغيب فيه الدولة عن تنظيم الأزمات الكبرى.
هل أصبح صياح الديك فعلًا يستوجب قرارًا بلديًا؟ أم أننا بتنا نعيش زمنًا تُكمّم فيه الأصوات… حتى إن كانت من طبيعةٍ لا تعرف الكذب؟