في قلب العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تتنفس المدينة همومها وتاريخها, إستضاف غاليري “ربيز” معرضاً فنياً استثنائياً بعنوان “انهيار اليقين”، للفنانة اللبنانية كريستين كتانة. المعرض ليس مجرد مجموعة أعمال فنية، بل هو رحلة تشريحية لظواهر اجتماعية واقتصادية وسياسية عصفت بلبنان، وتركت آثارها العميقة على الحياة اليومية والنفوس.
العملة المنهارة: رمزٌ لانهيار الحياة
وقفت كتانة أمام مفهوم العملة، التي كانت يوماً ما وسيلة للعيش والبقاء، فتراها اليوم وقد تحولت إلى مجرد ورقة بلا قيمة. عبر أعمالها التشكيلية التي تجمع بين النحت، الرسم، الصور، والكولاج، تعيد الفنانة تعريف المال: من أداة لشراء الخبز إلى رمز للفقدان. العملة لم تعد قادرة على تحقيق أبسط أهدافها: الخبز كمصدر رزق، المال كقيمة، والمنزل كمأوى آمن.
من قتل بيروت؟: تساؤلٌ بصري
بدأ المعرض بقسم بعنوان “من قتل بيروت؟”، وهو سلسلة من الصور التي توثق عملًا فنيًا نالت عنه كتانة الجائزة الأولى في جائزة “آرتي لاغونا” في البندقية عام 2015. العمل يستلهم قصة عثور الفنانة على شطيرة برازيلية في شوارع بيروت، لترى في هذا العنصر الغريب رمزاً لانزياح هوية المدينة وتشظيها.
“بيت وباتا ويابيت”: الوطن الذي تحول إلى ذاكرة
في القسم الثاني، تقدم كتانة عملاً بعنوان “بيت وباتا ويابيت”، حيث تلامس فكرة اقتلاع الوطن من معناه كملاذ آمن. من خلال اقتلاع دبابيس من إطارات لوحات قماشية، تعبر الفنانة عن تحول الوطن إلى مجرد ذاكرة أو فراغ، خاصة في ظل الحرب والنزوح.
“التقليب”: فنٌ في زمن الانهيار
القسم الثالث من المعرض يحمل عنوان “التقليب”، حيث تتعمق كتانة في أزمة الثقة بالنظام المصرفي الذي انهار مع حركة الشارع عام 2019. عبر كتاب فني يحمل نفس العنوان، تقدم الفنانة رؤية مبتكرة لتداول الأموال في زمن الانهيار، حيث تصبح الأيدي هي الأداة الوحيدة الباقية.
تقول كتانة: “في التقليب، الأيدي والطيور تروي قصيدة من كلمتين: الأيدي والطيور. عندما تختفي الأموال، يبقى العمل اليدوي هو الملاذ الأخير”.
“الضخم”: العملة التي فقدت قيمتها
أُختتم المعرض بقسم “الضخم”، وهو مجسم ضخم لعملة معدنية لبنانية فقدت قيمتها. العمل يطرح سؤالاً حول مفهوم التضخم: كيف يكبر الشيء ويصبح أكثر، لكنه يفقد قيمته الحقيقية؟ العملة المعدنية العملاقة تعكس وجوه المشاهدين على سطحها، وكأنها مرآة لتأملاتهم في واقعهم.

كريستين كتانة: فنانة تجمع بين الاقتصاد والفن
كريستين كتانة، الفنانة اللبنانية المقيمة في بيروت، تجمع بين خلفية أكاديمية في الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد، وفهم عميق للفنون من كلية سنترال سانت مارتينز. هذه الخلفية المزدوجة تمنح أعمالها بعداً فريداً، حيث تترجم الأزمات الاقتصادية إلى لغة بصرية مؤثرة.
شاركت كتانة في العديد من الإقامات الفنية والمعارض الدولية، وحصلت على جوائز مرموقة، منها جائزة أفضل فيلم قصير تجريبي في مهرجان كان السينمائي المتوسطي (2018)، وجائزة الجمهور في مهرجان برلين السينمائي الثوري (2020).
معرض “انهيار اليقين” ليس مجرد عرض لأعمال فنية، بل هو صرخة بصريّة تعكس واقعاً مريراً، وتفتح الباب لتأملات عميقة حول الهوية، القيمة، والوجود في زمن الانهيار.
فريق التحرير