بين وقار الخشبة وحميمية الكاميرا، تقف ريتا حايك كواحدة من العلامات الفارقة في المشهد الفني اللبناني المعاصر. ليست مجرد ممثلة تخطو بثبات نحو الشهرة، بل فنانة تنسج أدوارها من لُحمة القلق الإنساني وأسئلته الكبرى، وتحوّل تجاربها الشخصية والمهنية إلى مرآة عاكسة لوجع الوطن وسؤال الحرية.
في افتتاح إحدى حلقات برنامج “مسك الكلام”, قُدّمت ريتا بهذه العبارات: “تحمل في عينيها أفقين: أفقٌ يترجم ألم الأرض، وآخر يرفض غلق أبواب الحرية”. وهذا التقديم، وإن بدا شاعرياً، يلتقط بدقة طبيعة حضورها المركّب: فنانة تحمل التزاماً داخلياً عميقاً، تُجسد أدوارها بشغف يربط الفن بالواقع.
من الدراما إلى المسرح.. ومن الكاميرا إلى الروح
بدأت رحلتها مع التمثيل عام 2005 عبر مسلسل “حلم آذار”، لكن المسرح ظل مرساها الأعمق. ففي “كعب عالي” (2011) وضعت أولى خطواتها الجريئة، لتبلغ ذروتها في عمل شكل مفترق طرق: “Venus فينوس” (2015–2016)، الذي مثّل نقلة نوعية في مسيرتها. على مدى 82 ليلة عرض بين بيروت وباريس، جسدت ريتا نصاً معقّداً يدور حول ثنائية السلطة والجنس، وقدّمت شخصية تلامس هشاشة المرأة وقوتها في آن. “فينوس” لم تكن مجرد دور، بل تجربة جسدية وذهنية ونفسية شكّلت “علامة فارقة في حياتي”، كما وصفتها هي.
وفي عام 2025، عادت “فينوس” على الخشبة برؤية جديدة. بعد عشر سنوات، كانت العودة أشبه بافتتاح فصل ناضج من العلاقة بين الفنانة ونصها، لتقول بثقة: “قبل عشر سنوات كنا نتدرّب؛ اليوم نقدّم المسرحية فعلاً”.
على الشاشة الكبيرة: دور… وصوت
في السينما، اقتحمت ريتا الساحة بقوة مع فيلم “الإهانة” (2017) للمخرج زياد دويري، الذي رُشِّح لجائزة الأوسكار. هناك، اكتشفت أن الكاميرا لا ترحم، بل تلتقط أعمق المشاعر وأدق التفاصيل. هذا الدرس جعلها أكثر وعياً بمسؤوليتها كممثلة، وأكثر إخلاصاً للحقيقة الفنية.
ثم في فيلم “البرابرة” (2023) للمخرجة الفرنسية جولي ديلبي، جسّدت ريتا شخصية “ألمى”، الطبيبة السورية اللاجئة في قرية فرنسية صغيرة، مواجهةً العنصرية بلغة عربية ولهجة سورية. أداء حاز تقديراً نقدياً واسعاً، وأسهم في تعزيز حضور السينما اللبنانية والعربية في أوروبا. “شعرت أني أنقل صوت الذين لا صوت لهم”، تقول عن هذه التجربة.
مسرح داخل الوجع… “فيزيا وعسل”
عام 2024، خاضت تجربة مسرحية استثنائية مع “فيزيا وعسل” للمخرجة لينا خوري، عن نص “Constellation” للبريطاني نيكولاس رايت. جسّدت شخصية “فيزيا”، العالِمة المصابة بورم في الدماغ، في علاقة متشابكة مع “عسّال”. العمل جمع بين الكوميديا السوداء والتراجيديا والفيزياء، وطرح أسئلة وجودية شائكة عن المصير والاختيار. بأسلوب سردي تكراري يعيد المشهد نفسه بتفاصيل مختلفة، حملت المسرحية جرعة من الألم الشفاف الممزوج بالفكر العميق.
موقف يتخطى الفن
خلال السنوات الأخيرة، لم تكن ريتا حايك صامتة في وجه المآسي. وسط الحرب على غزة ولبنان، استخدمت منصاتها للدفاع عن القضايا العادلة، ورفضت الصمت الفني الذي يمارسه البعض تحت شعار الحياد. مواقفها، سواء على الشاشة أو خارجها، أكدت أن الفنان ليس مجرد مؤدٍ، بل شاهد ومشارك في الواقع.
رفضها للمشاركة في الأعمال “العربية المختلطة” التي ترى أنها تخضع لاعتبارات تجارية على حساب الجودة، وتأكيدها على أهمية “الدراما اللبنانية الأصيلة”، هو امتداد لفكرة مركزية تؤمن بها: الفن موقف.
أزمة “فينوس” الجديدة: ملكية الإبداع وحرية التمثيل
قبل أيام، أعلنت ريتا حايك عبر فيديو على وسائل التواصل عن تعرّضها لما وصفته بـ”الخيانة المهنية”، حين فوجئت بإطلاق جولة عالمية جديدة لمسرحية “فينوس” تشمل دبي وكندا، دون إشراكها، رغم كونها صاحبة فكرة الاقتباس الأصلية للنص (Venus in Fur) إلى النسخة اللبنانية، ومؤدية الدور على مدى سنوات.
استُبدلت في العمل بزميلتها رلى بقسماتي إلى جانب بديع أبو شقرا، في خطوة اعتبرتها حايك تنكّراً لجهدها الإبداعي والحقوقي، لتتحول المسألة من فنية إلى قانونية وإنسانية في آن. وقد ردّ المخرج جاك مارون عبر محاميه بأن ريتا انسحبت طوعاً من العمل، وهو ما فتح باب النقاش حول حقوق الملكية الأدبية و”من يملك الفن”، وهل الإبداع يُقاس بالعقود أم بالشغف؟ وهل يمكن استبعاد الفنان من عمل ساهم في تشكيل هويته؟
الجدل القانوني تُرك للقضاء اللبناني، لكن التضامن الشعبي والفني مع حايك كان واسعاً، دافعاً باتجاه إعادة طرح أسئلة أعمق عن الأخلاقيات المهنية في الوسط الثقافي.
ريتا… البوصلة لا تخطئ
اليوم، في زمن تتداخل فيه الشهرة بالصوت العالي والسطحيات، تظلّ ريتا حايك مثالاً للفنانة التي تصنع اسمها بالصبر، والاختيارات الدقيقة، والمواقف الواضحة. لم تغيّر ملامحها، بل غيّرت أدواتها. لم تلهث خلف الأضواء، بل أعادت تعريفها.
تكتب اليوم نصوصها، وتحلم بمسرح يحمل وجع الناس، وترفض التنازل عن فنّها مهما كانت الإغراءات. من “ألمى” إلى “فيزيا”، ومن “فينوس” الأولى إلى التي لم تعرض، تثبت ريتا أن الفنان الحقيقي لا يُختزل في دور، بل يسكن داخل الفكرة، ويحيا داخل موقف.
هي ليست فقط وجه “فينوس”، بل قلبها النابض، حتى لو تاهت المسرحية عن مسارها. لأن الفن، حين يُنتزع من روحه، يبقى مجرد هيكل. أما ريتا، فهي من ذلك الطراز الذي يبقى حتى حين يُقصى.