أيها السائل، يا من تستنطق صمت الحكايات، وتستجلي عبرات الأيام، دعني أُفيض عليك من نهر الذكرى، وأريك كيف نقشت ملاك براءة طفولتها على جدار الزمن.
في جنوب لبنان، حيث تتشابك جذور الزيتون مع صخور التلال، وحيث يعزف النسيم ألحانًا حزينة بين أغصان الليمون، وُلدت “ملاك”. سبع سنين حملت في طياتها براءة الكون، وعينان تشبهان صفاء السماء قبل أن تلوثها غيوم الحرب.
لم يكن بيت “ملاك” مجرد بناء من طوبٍ وحجر، بل كان قلبًا ينبض بالحياة، معبدًا صغيرًا للحب، حيث تنساب الحكايات مثل نهرٍ دافئ، وحيث تتردد ضحكات الطفولة كتراتيل مقدسة. في كل ركنٍ منه، كان ثمة أثرٌ للحب الذي زرعه والداها، وفي كل زاوية، قصةٌ صغيرة ترويها ألعابها المتناثرة وألوانها المبعثرة.
في حديقة المنزل، كانت “ملاك” تصنع عوالمها الخاصة. حيث تتراقص الفراشات بين الأزهار، وتتسابق العصافير في سماء صافية، كانت الصغيرة تُبدع قصصها وتغزل أحلامها. كانت ترى والدها فارسًا مغوارًا، يأتِ من حكايات الأبطال ليحملها على كتفيه ويطير بها عاليًا، إلى حيث لا خوف ولا حزن.
كان والدها، رغم قسوة الأيام وثقل المسؤوليات، يبتسم كلما عاد إلى المنزل. كانت ابتسامة “ملاك” تزيل عن كاهله تعب النهار، وتحوله من رجلٍ أنهكته الحياة إلى طفلٍ يلهو ويضحك مع صغيرته. كان يعرف أنها عالمه، وكانت تدرك أنه الأمان المطلق في حياتها.
لكن الحياة لا تمنح سعادتها كاملةً، وكأنها تخشى أن يعتاد البشر على الفرح. كان ذلك الصباح مختلفًا، لم يكن ككل الأيام التي سبقت، حيث تملأ العصافير المكان بنغماتها. في ذلك اليوم، كان صوت الانفجارات أعلى من تغريد الطيور، وكان لون الدخان أسودًا يختلط بزرقة السماء، كأنما الليل حلَّ في وضح النهار.
بدأت الحرب تدق أبواب البلدات الجنوبية بلا رحمة، وتحولت الشوارع التي كانت تملؤها ضحكات الأطفال إلى طرقاتٍ موحشة لا تسمع فيها سوى صدى القصف وصراخ الفقد.
حاول والد “ملاك” تهدئتها، احتضنها كأنه يحاول أن يحميها من قدرٍ يعرفه جيدًا، لكنه كان يدرك في أعماقه أن الحرب لا تعرف الرحمة، وأنها وحشٌ لا يفرق بين كبيرٍ وصغير.
وفي ليلةٍ لم يضيئها سوى نار القذائف، اجتمعت العائلة للمرة الأخيرة في بيتهم. أخبرها والدها أنه سيبقى، وأن عليه حماية أرضهم من العدو الإسرائيلي، بينما عليها أن ترحل مع والدتها وأخيها الصغير. نظرت إليه بعيونٍ لم تفهم معنى الحرب، لكنها شعرت بأن هناك وداعًا مخبأً في كلماته.
في طريق النزوح الى المنطقة الأمنة، كانت “ملاك” تحتضن دميتها الصغيرة، وكأنها تحمل جزءًا من بلدتها الجنوبية معها. كانت الدمية تحمل ملامح بيتها، رائحة والدها، وكل الذكريات التي تركتها خلفها.
لكن الفراق لم يكن مجرد فراق مكان، بل كان فراق أرواح. حين وصلهم نبأ استشهاد والدها بعد أيام قليلة من الهروب، لم تفهم ملاك معنى الموت، لكنها شعرت بأن عالمها انهار فجأة. كانت تسأل أمها كل ليلة:
“متى يعود أبي؟ لماذا تأخر؟ هل ضاع في الطريق؟”
وكانت أمها تجيب بصوتٍ مبللٍ بالدموع:
“أبوكِ في مكانٍ أفضل، في قلوبنا إلى الأبد.”
لكن القلوب، مهما حفظت الذكرى، لا تستطيع أن تعوض غياب الأحضان.
مرت الأيام، وكبر الفقد في قلب “ملاك” كما يكبر الأطفال، لكنه لم يكن ينمو ليجلب اليأس، بل ليرسم الأمل بألوانٍ جديدة.
في أثنين العودة، كانت زيارة “ملاك” الأولى لقبر والدها، جلست بهدوء برغم طنين المسيرات الإسرائيلية التي تخترق الأجواء، أخرجت أوراقها وألوانها، وبدأت ترسم . لم تكن ترسم مجرد صورة، بل كانت تخط خريطةً للروح، طريقًا يصل بين عالمين، بين الأحياء والراحلين.
في لوحتها، كان والدها يرقد بين الورود، بينما كانت هي وأمها وأخوها الصغير يبتسمون بجواره. أرادت أن تقول للعالم كله إن الحب أقوى من الموت، وإن الحرب قد تأخذ الأحبة، لكنها لن تستطيع أن تسلب الذكريات.
لم تكن قصة “ملاك” مجرد حكاية عن طفلةٍ فقدت والدها في الحرب، بل كانت شهادةً حية على معاناة آلاف الأطفال الذين سرقت الحرب طفولتهم.
كانت عيناها تخبر العالم كله أن أطفال فلسطين وجنوب لبنان وكل بقاع الأرض التي مزقتها الحروب، يستحقون حياةً كريمة، يستحقون أن يضحكوا، أن يلعبوا، أن يحلموا دون خوف.
كانت ابتسامة ملاك، رغم كل الألم، درسًا للبشرية جمعاء:
“الأمل لا ينكسر، والحب لا يُهزم، والحياة تستحق أن تعاش.”
“ملاك”، بابتسامتها الصغيرة، علمتنا أن الحرب قد تسرق الأحبة، لكنها لن تسرق الإيمان بأن الغد سيكون أجمل.
* القصة مقتبسة من أحداث حقيقية وقعت خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان.
* الصورة الورادة في العنوان، حقيقية رسمتها الفتاة التي استُلهمت منها القصة الحقيقية.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة