في يوم المرأة العالمي، نسمعُ صوتَ الحياةِ يهمسُ في آذاننا، فيروي لنا قصةَ امرأةٍ اسمها “خديجة”. امرأةٌ حملتْ في قلبها نارَ الإرادةِ، وفي عينيها بريقَ الأملِ. امرأةٌ كانت كالشجرةِ التي تنمو في الصخرِ، جذورُها تتعمقُ في الأرضِ، وأغصانُها تلامسُ السماءَ. امرأةٌ عرفت منذ صغرها أن الحياةَ ليستْ رحلةً سهلةً، بل هي معركةٌ تُخاضُ بالإصرارِ والصبرِ.
خديجة، الفتاةُ التي حملتْ مسؤوليةَ بيتها وهي ما تزالُ في ربيعِ عمرها. كانتْ تدرسُ تحت ضوءِ القمرِ، وتنامُ على وسادةٍ من الأحلامِ. كانتْ تعلمُ أن العلمَ هو السلاحُ الذي سيحررُها من قيودِ الجهل، فلم تتركْ كتاباً إلا وقرأته، ولم تتركْ فرصةً إلا واستغلتها. تخرجتْ من لجامعة بقلبٍ ملؤه الأملُ، والتحقتْ بصفوف الجيشِ اللبناني، لتحملَ السلاحَ مثلها مثل أيِّ شابٍ. كانتْ خديجةُ نموذجاً للقيادةِ والإصرارِ، امرأةٌ قويةُ القلبِ، صلبةُ العزيمةِ، لا تعرفُ الخوفَ إلا من اللهِ.
في الجيش، التقت بأيمن، الشاب الذي كان يحمل في عينيه نفس الحلم الذي تحمله. كانا يتقاسمان اللحظات البسيطة، والضحكات الخفيفة، والأحلام الكبيرة. كانت قصة حبهما عفوية، كأنها نبتت من تراب الأرض التي يحميانها. لم تكن كلمات الحب بينهما تحتاج إلى تزيين، بل كانت صادقة كندى الصباح. تزوجا، وأسسا عائلة صغيرة، كانا يعيشان فيها أحلامهما بعيدًا عن صخب العالم. طفلان صغيران، بيتٌ دافئ، وحلمٌ بمستقبلٍ أفضل.
لكنَّ الحربَ، التي تشبه الوحشُ الجائعُ الذي لا يشبعُ من دماءِ الأبرياءِ، لم تُبقِ ولم تذرْ شيئاً في طريقها. كانتْ غاشمةً بلا رحمةٍ، تُحيلُ الحياةَ إلى خرابٍ وتُحوِّلُ الأحلامَ إلى كوابيسَ. في أواخر عامِ ٢٠٢٤، شنَّ العدوُّ الإسرائيليُّ هجوماً وحشياً على لبنانَ، مستهدفاً مراكزَ عسكريةً ومدنيةً دون تمييزٍ. كانتْ قواتُه الغاشمة تُطلقُ نيرانَها بلا هوادةٍ، مُحولةً الأرضَ إلى جحيمٍ مُشتعلٍ.
في التاسع عشر من تشرين الثاني ٢٠٢٤، في ذلك اليوم المشؤوم، كان أيمن، الجندي الشجاع والنابض بالحياة، الذي حمل في قلبه أحلاماً كبيرة لمستقبل زاهر، يتواجد في المركز العسكري مع رفاقه. كانت الحياة تمضي بهم بخطى ثابتة، رغم كل التحديات، حتى جاءت تلك اللحظة القاسية التي غيرت كل شيء. انفجار هائل، ودويٌّ مدوٍّ، ودخان كثيف غطى السماء. في لحظة، تحولت أحلام أيمت إلى رماد، وانطفأ نور حياته، تاركاً خديجة، حبيبته، زميلته، وزوجته وحيدة في مواجهة مصير قاسٍ لم تكن تتوقعه.
برغمِ الألمِ والفقدِ، وقفتْ خديجةُ كالجبلِ الشامخِ، تحملُ في قلبها جراحاً لا تُرى، ولكنها لا تسمحُ لها بأن تكسرها. ومنذ ذلك اليوم، أصبحتِ الأمَّ والأبَ لأولادها، تحملُ على كتفيها مسؤوليةَ تربيتهم وإعالتهم. كانتْ تذهبُ إلى خدمتها العسكرية كلَّ صباحٍ بقلبٍ ملؤه الإصرارُ، وعينينِ تلمعانِ بالأملِ. كانتْ تعلمُ أن الحياةَ لا تتوقفُ عند الألمِ، بل تستمرُّ برغمِ كلِّ شيءٍ.
خديجةُ، المرأةُ التي حملتِ السلاحَ لتحمي وطنها، وحملتْ قلباً كبيراً لتحمي أسرتها، هي رمزٌ لكلِّ النساءِ المكافحاتِ في العالمِ. هي المرأةُ التي تعرفُ كيف تقفُ في وجهِ العواصفِ، وتصنعُ من الألمِ قوةً، ومن الفقدِ إرادةً. هي المرأةُ التي تثبتُ كلَّ يومٍ أن الحياةَ تستحقُّ أن تُعاشَ، وأن الأملَ لا يموتُ أبداً.
في يومِ المرأةِ العالمي، نرفعُ القبعةَ لخديجة سعد، ولكلِّ النساءِ اللواتي يحملنَ في قلوبهنَّ نارَ الحياةِ، ويرفعنَ في أيديهنَّ راياتِ الكفاحِ. نُحيي كلَّ امرأةٍ وقفتْ في وجهِ الظروفِ، وحولتِ الألمَ إلى قوةٍ، والفقدَ إلى إرادةٍ. نحيي كلَّ أمٍ، كلَّ أختٍ، كلَّ زوجةٍ، كلَّ ابنةٍ، حملتْ في قلبها حبَّ الحياةِ، وسارتْ بخطى ثابتةٍ نحو المستقبلِ.
لخديجةَ، ولكلِّ نساءِ العالمِ، نقولُ: أنتنَّ الشموعُ التي تضيءُ دروبَ الحياةِ، وأنتنَّ الأملُ الذي لا ينضبُ. فتحيةٌ لقلوبكنَّ القويةِ، ولأرواحكنَّ التي لا تعرفُ اليأسَ. فأنتنَّ، يا نساءَ العالمِ، من يصنعنَ الحياةَ، ويرسمنَ المستقبلَ.
لروح الشهيد أيمن رحال ولكل الشهداء التحية والإجلال.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة