كانت شمس الظهيرة تلفح أسفلت موقف السيارات في احدى الجامعات اللبنانية بلهيبها، بينما كانت غ.خ تسحب حقيبتها الثقيلة بيد مرتعشة، عيناها تبحثان بلهفة عن سيارتها البيضاء الصغيرة، تلك التي وفرت ثمنها عامًا كاملًا من عملها الإضافي. لكن المكان الذي ركنت فيه السيارة كان فارغًا، كأن الأرض ابتلعت العجلات وأسكتت محركها إلى الأبد.
“لا… لا يمكن!” رفعت يديها إلى رأسها، شعرت وكأن الأرض تدور بها. السيارة لم تكن مجرد حديد يتحرك، بل كانت كل شيء: جهازها المحمول الذي تكتب عليه أبحاثها، محفظتها بهويتها وجواز سفرها، دفتر ملاحظاتها الذي دوّنت فيه أحلامها طالبة إدارة الأعمال. حتى تلك الصورة القديمة لوالدتها الراحلة، التي احتفظت بها في الدرج الصغير… كلها اختفت.
سقطت على الرصيف، وأصابعها تتشبث بشعرها الأسود الطويل. حولها، مرّ زملاؤها بلا اكتراث، بعضهم ألقى عليها نظرة عابرة ثم مضى. حتى حارس الجامعة العجوز همس لها: “يا بنتي، خلص… هيك بلدنا. روحّي اعملي محضر، بس ما بتغيّر شي.” كلماته خرجت كخنجر مغروس في ظهرها.
لم تكن السيارة مجرد سيارة، بل كانت سنوات من التعب. كانت غ.خ. تعمل ليلًا في المقهى بينما زميلاتها ينمن، تدرس تحت ضوء الشمعة حين تنقطع الكهرباء، تصبر على سخرية البعض من “بنت المقهى” التي تظن أنها قادرة على دخول الجامعة. والآن، بلمح البصر، سرقوا منها أكثر من ممتلكات… سرقوا إحساسها بالأمان، بإنسانة تستحق أن تحلم.
وفي القسم، كان الضابط يتثاءب وهو يكتب بلاغ السرقة. “بعدين ما في كاميرات، ولا شهود… ما في أمل تلاقيها.” ثم أومأ إليها أن تخرج، وكأنها تزعجه بكثرة أسئلتها. خرجت إلى الشارع، حيث كانت السيارات تمرّ كالوحوش السريعة، كل منها يحمل أناسًا لا يعرفون أن قلبًا ينهار بالقرب منهم.
في بلد مثل لبنان، لم تعد السرقة جريمة، بل “مهارة”. الفاسدون يسرقون المليارات ويُكرَّمون، والسياسيون ينهبون أحلام الشباب ثم يتحدثون عن “الوطنية”. والنتيجة؟ شعب يائس، يعلم أن القانون للضعفاء، وأن الأخلاق رفاهية.
غ.خ. لم تسرقها أيادٍ مجهولة فقط، بل سرقها نظام فاسد جعل اللص يجرؤ على السرقة في وضح النهار، لأنّه يعلم أن العقاب خرافة. سرقها مجتمع تعوّد على أن يقول: “ما في داعي تضيّعي وقتك، هيك هو البلد!” كأن الاستسلام فضيلة.
لكن الأقسى من السرقة، هو أن أحدًا لم يفاجأ. لأن في لبنان، الضحية هي الغبية التي ظنّت أن لديها الحق في أن تمتلك، أن تحلم، أن تُحترم.
غ.خ. عادت إلى بيتها بلا سيارة، لكنها أدركت أن السرقة الحقيقية ليست سرقة الممتلكات، بل سرقة الكرامة… والإيمان بأن التغيير ممكن.
ونحن؟ متى سنكتفي بأن نكون أوفياء لهذا الوطن، لا للفساد الذي يقتله؟
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة