في لبنان، حيث تُنسج الملاحم بدماء الشهداء، يُستقبَل العيد بقلوب تتنازعها مشاعر الفخر والألم. هنا، لم يعد العيد لباساً جديداً وحلوى وأضواء، بل تحوّل إلى زيارات صامتة عند قبور من وهبوا أرواحهم ثمناً للكرامة. العيد هنا مختلف، فطقوسه تُحييها دموع الأمهات، وابتسادات الأطفال الذين يحملون ذكرى آبائهم كهدية ثمينة، وعيون النساء اللواتي يرفعن أصواتهنّ بالدعاء لا بالزفّة.
فرحةٌ بدمائهم
“فرحتنا ببطولاتهم هي العيد”، جملة تختزل روح اللبنانيين الذين حوّلوا الفقد إلى قوّة، والحزن إلى إرادة. ففي القرى الجنوبية مثل كونين والخيام، حيث لا يزال القصف يهدّد السكينة، يصرّ الأهالي على إحياء العيد بطريقتهم. زيارة الأضرحة أولاً، ثم صلاة العيد، ثم اجتماع العائلة حول ذكرى من رحلوا. مريم، ابنة الشهيد علي عباس، لم تعد تنتظر هديةً من أبيها، لكنّها تحمل رسالته في قلبها: “الشهادة لا تعني اليأس، بل تعني أن نصنع الفرحة من دمائهم”.
طقوس اللقاء الأخير
انتصار غريب، شقيقة أربعة شهداء، تروي كيف تحوّل العيد إلى موعد سنويّ مع أحبائها تحت التراب. عشرون عاماً وهي تزور ثلاثة شهداء، واليوم أضافت إليهم شهيداً رابعاً. تقول: “نحن لا نزور الموتى، بل نلتقي بأحياء عند الله”. زيارة القبور ليست طقساً للبكاء، بل تجديداً للعهد: “سنكمل المسيرة، لأنّ دماءهم ليست ذكرى، بل شعلة”.
حتى الأطفال لم يُحرموا من بهجة العيد، ففي كونين، يُقام “الكارميس” كما كان يفعل الشهيد هيثم حمود، القائد الكشفي الذي حوّل الأعياد إلى فرح جماعي. اليوم، يقف أطفال القرية عند ضريحه، يقرأون القرآن، ويلهون كما لو كان يراهم من السماء.
لن نركع
والد الشهيد هيثم، الذي عاش 76 عاماً، يقول إنه لم يعرف معنى العيد الحقيقي إلا بعد أن منحه الله شرف الشهادة. زيارته لابنه صباح العيد ليست وداعاً، بل تحية محارب قديم لمقاتل جديد. العائلة كلها تجتمع، لا حول مائدة الطعام، بل حول القبور التي أصبحت محجّاً للوفاء.
أما في الخيام، المدينة التي مزّقها الدمار، فلا يزال الناس يصرّون على إحياء العيد ولو “بتفاصيل صغيرة”. زيارة الشهداء أولاً، ثم تبادل التهاني بين الجيران الذين تشتّتوا في المنفى. يقول عباس تليجي: “أجمل ما في العيد هذا العام أن الناس أستطاعت أن تجتمع حول قبور شهدائها”.
العيد الذي لا ينتهي
في الجنوب، في البقاع، وفي بيروت لم يعد العيد يوماً في التقويم، بل صار حالة دائمة من المقاومة. كل ضريح هنا يحمل قصّة، وكل دمعّة تُذرف عند القبور هي وعد بأنّ الدم لن يذهب سدى. العيد الحزين ليس نهاية الفرح، بل بداية فرح آخر، فرحٌ يعرف أن الشهادة هي الطريق الوحيد إلى الحرية.
“لن نركع، سنمضي ونبقى على نهج شهدائنا حتى آخر نفس”. هذه ليست مجرد كلمات، بل هي روح لبنان التي ترفض أن تنحني. ففي أرضٍ تُروى بالدم، لا مكان للعيد إلا عند الأضرحة، حيث تُقرأ الفاتحة، ويُجدَّد العهد، ويُولد الأمل من جديد.
فريق التحرير