في قلب المسرح اللبناني، وقف أنطوان كرباج كشاهدٍ على عصرٍ ذهبيٍّ من الفن والإبداع، رجلٌ حمل بين جنبيه روحَ شكسبير وحكمةَ التاريخ، وأسهم في نحتِ ملامحِ مسرحٍ عربيٍّ حملَ همومَ الإنسانِ وأحلامَه. كان كرباج أكثرَ من مجرد ممثل؛ كان ظاهرةً فنيةً وثقافيةً، قامةً أسطوريةً تخطّت حدودَ الخشبة لتغوصَ في أعماقِ النفسِ الإنسانيةِ، وتلامسَ أوجاعَها وأفراحَها بلمسةٍ فنيّةٍ لا تُنسى.
وُلد أنطوان كرباج في عام 1935، في زبوغا، تلك القريةِ الهادئةِ على سفحِ جبلِ صنّين، حيثُ تتنفسُ الطبيعةُ شعراً وتتحدثُ الفنَّ بلسانِ الجبالِ والأشجار. نشأ في كنفِ عائلةٍ كوزموبوليتيةٍ، حيثُ امتزجتْ جذورُه السويديةُ بلُحمةِ التراثِ اللبنانيِّ، فتشكّلَ منه رجلٌ يحملُ في دمهِ تنوعَ العالمِ، وفي قلبهِ حبُّ الوطنِ. كان والدهُ شكري كرباج ووالدتهُ إيراساما كرم، نسيجاً من الثقافةِ والطموحِ، فورثَ عنهما شغفَ الفنِّ وروحَ التحدي.
منذُ خطواتِه الأولى على خشبةِ المسرحِ، كان كرباجُ يحملُ في عينيهِ بريقَ النجومِ، وفي صوتهِ صدى الأساطير. بدأ مشوارَه الفنيَّ في ستينياتِ القرنِ الماضي، معَ مدرستَيْن رائدتَيْن في التمثيلِ المسرحيِّ: “معهد التمثيل الحديث” و”فرقة المسرح الحديث”. كانَ مجتهداً بالفطرةِ، سريعَ التعلّمِ، يحملُ في داخلهِ طموحاً لا يعرفُ الحدودَ. لم يكنْ مجردَ ممثلٍ يؤدّي أدواراً، بل كانَ فناناً يخلقُ عوالمَ جديدةً، يعيدُ تشكيلَ الواقعِ بلمسةٍ سحريةٍ من الإبداعِ.
كانت أدوارُه كلماتٍ تُنقشُ على جدارِ الزمنِ، كلُّ دورٍ يحملُ في طياتهِ قصةً إنسانيةً، صراعاً بينَ الحبِّ والكبرياءِ، بينَ الخيرِ والشرِّ، بينَ الحلمِ والواقعِ. من “ماكبث” إلى “هاملت”، ومن “أوديب” إلى “فاوست”، كان كرباجُ يختزلُ في كلِّ شخصيةٍ يجسّدها روحَ الإنسانِ بكلِّ تعقيداتِها وتناقضاتِها. كانَ فارساً على الخشبةِ، يحملُ سيفَ الكلمةِ ودرعَ الإحساسِ، يقاتلُ من أجلِ قضايا الإنسانِ والوطنِ.
في أعقابِ نكسةِ 1967، تحوّلَ كرباجُ إلى المسرحِ السياسيِّ، حاملاً همومَ الأمةِ على كتفيهِ. قدّمَ مسرحيةَ “الديكتاتور” كصرخةٍ في وجهِ الهزيمةِ، كرفضٍ رمزيٍّ قويٍّ للاستسلامِ. كانتْ تلكَ المسرحيةُ نقطةَ تحوّلٍ في مسيرتِه الفنيةِ، حيثُ أصبحَ صوتاً للضميرِ الجمعيِّ، يحملُ قضايا الوطنِ إلى صدارةِ المشهدِ الفنيِّ.
لم يقتصرْ إبداعُ كرباجِ على المسرحِ، بل امتدَّ إلى التلفزيونِ، حيثُ أصبحَ أيقونةً من أيقوناتِ الدراما اللبنانيةِ. من “جان فالجان” إلى “بربر آغا”، ومن “المفتش الحكيم” إلى “زوج ديالا”، كانَ كرباجُ يخلقُ شخصياتٍ تلامسُ قلوبَ المشاهدينَ، تحملُ في طياتِها عمقَ التجربةِ الإنسانيةِ وثراءَها.
رحلَ أنطوان كرباجَ في 16 مارس 2025، تاركاً وراءه إرثاً فنياً لا يُقدّرُ بثمنٍ. كانَ رحيلُه خسارةً للفنِّ والثقافةِ، لكنَّ إبداعَه سيظلُّ خالداً في ذاكرةِ المسرحِ اللبنانيِّ والعربيِّ. كانَ كرباجُ أكثرَ من فنانٍ؛ كانَ مدرسةً في الإبداعِ، ورسالةً في الإنسانيةِ، ورمزاً للعطاءِ والتضحيةِ.
في وداعِ أنطوان كرباجَ، نودّعُ جزءاً من تاريخِنا الفنيِّ، لكنّنا نبقى نستلهمُ من إبداعِه دروساً في العطاءِ والصمودِ. كانَ كرباجُ هاملت المسرحِ اللبنانيِّ، الذي قالَ: “أكونُ أو لا أكون”، واختارَ أن يكونَ، فخلّدَ اسمَه في سجلِّ الفنِّ الخالدِ.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة