شهدت الحدود اللبنانية السورية في الآونة الأخيرة توتراً أمنياً متصاعداً، نتيجة عمليات عسكرية نفذتها القوات السورية المسلحة بحجة ملاحقة مهربي الأسلحة والممنوعات. هذا التصعيد أثار قلقاً لبنانياً واسعاً، خصوصاً بعد تعرض مناطق حدودية لبنانية للقصف وإطلاق النار، ما دفع الجيش اللبناني إلى الرد على مصادر النيران. ورغم أن هذا التوتر ليس جديداً، إلا أن حدّته الأخيرة تثير تساؤلات حول أبعاده ومستقبله.
جذور الأزمة
التوتر بين لبنان وسوريا يعود إلى عقود مضت، نتيجة تداخل تاريخي وجغرافي معقّد. فالحدود المشتركة بين البلدين تمتد لنحو 375 كيلومتراً، يمر جزء كبير منها عبر مناطق جبلية وعرة تُعد معبراً سهلاً للتهريب منذ سنوات طويلة. هذا التداخل لم يكن مجرد جغرافيا، بل شكّل أساساً لعلاقات اجتماعية واقتصادية بين سكان الحدود، حيث تنتمي العديد من العشائر اللبنانية والسورية إلى جذور مشتركة.
مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تفاقمت الفوضى الأمنية، وأصبحت الحدود معبراً للمسلحين والمهربين، ما أدى إلى تصعيد كبير في التوترات الأمنية والسياسية.
التصعيد الحالي
في الأيام الأخيرة، أعلنت وزارة الدفاع السورية عن بدء عملية عسكرية على الحدود بحجة مكافحة تهريب الأسلحة والمخدرات، حيث دفعت بتعزيزات عسكرية كبيرة ونفّذت عمليات أمنية مكثفة. في المقابل، ردّ الجيش اللبناني على مصادر النيران، وسط دعوات من عشائر البقاع الشمالي للحكومة اللبنانية بضرورة التدخل ووقف “الاعتداءات العسكرية”.
الرئيس اللبناني جوزاف عون أجرى اتصالاً مع نظيره السوري أحمد الشرع للتنسيق بشأن ضبط الوضع ومنع استهداف المدنيين. غير أن هذه الاتصالات لم تنجح حتى الآن في تهدئة الأوضاع بشكل كامل، حيث تتزايد المخاوف من تصعيد أكبر قد يخرج عن السيطرة.
الأبعاد السياسية والعشائرية
الأوضاع الأمنية المعقدة على الحدود لا يمكن فصلها عن البُعد السياسي والعشائري. المحامي اللبناني سهيل جعفر يشير إلى أن العشائر اللبنانية تعاني من تهميش تاريخي وإهمال حكومي منذ استقلال البلاد عام 1948. هذا الواقع دفع العديد من الشباب إلى الانخراط في أنشطة التهريب، نتيجة غياب فرص العمل والخدمات الأساسية في تلك المناطق النائية.
في المقابل، تؤكد الحكومة السورية أن عملياتها العسكرية تستهدف المطلوبين للعدالة، لكنها تتجنب الحديث عن التداعيات المحتملة لهذه العمليات على الوضع اللبناني الداخلي، خصوصاً مع تزايد القلق من احتمال تهجير سكان القرى الحدودية باتجاه الأراضي اللبنانية.
مخاوف من تصعيد أكبر
يخشى الخبراء العسكريون من أن تؤدي العمليات العسكرية الحالية إلى مزيد من التصعيد. العقيد المتقاعد محمد منير أشار إلى خطورة استخدام طائرات مسيّرة في القصف السوري على الأراضي اللبنانية، محذراً من احتمال تدخل قوى إقليمية أو دولية إذا استمر الوضع في التدهور.
إضافة إلى ذلك، يثير الحديث عن مشاركة “عصابات تهريب مسلحة” مخاوف من تحول المنطقة الحدودية إلى ساحة مفتوحة للصراع بين الأطراف المختلفة.
الحلول الممكنة
في ظل هذا الوضع المتوتر، تبدو الحاجة ملحّة إلى جهود دبلوماسية حثيثة بين الحكومتين اللبنانية والسورية، بهدف وضع حد لهذه الأزمة المتفاقمة.
ترسيم الحدود بشكل نهائي، وضبط المعابر غير الشرعية، وإعادة ترتيب العلاقات بين بيروت ودمشق هي خطوات أساسية لضمان استقرار المنطقة.
على المستوى المحلي، لا بد من تعزيز وجود الدولة اللبنانية في المناطق الحدودية، وتوفير الخدمات الأساسية لسكانها، بهدف إنهاء ظاهرة التهريب من جذورها. كما أن الحوار مع العشائر يجب أن يكون جزءاً من أي حل مستدام، لضمان استقرار هذه المناطق التي لطالما كانت مهمّشة.
إلى أين؟
يبقى السؤال الكبير: إلى أين يتجه هذا التوتر؟
إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة لضبط الوضع، فإن التصعيد قد يتحول إلى مواجهة شاملة تؤثر على الأمن القومي لكلا البلدين. أما إذا نجحت الجهود السياسية والدبلوماسية في تهدئة الأوضاع، فقد يكون هذا التصعيد فرصة لإعادة رسم العلاقة بين لبنان وسوريا على أسس أكثر وضوحاً واستقراراً.
الحدود اللبنانية السورية ليست مجرد خط جغرافي، بل هي ساحة تختلط فيها المصالح السياسية، الأزمات التاريخية، والمعاناة الاجتماعية. ويبقى الأمل معقوداً على الحكمة السياسية لمنع تحوّل هذه المنطقة إلى ساحة جديدة لصراع طويل الأمد.
فريق التحرير