على الركام، يقف اللبناني حافي الروح، لا سلاح له إلا حب الأرض، ولا همّ له إلا أن تبقى قدماه ثابتة عليها، كأنها جزء من جسده. هناك، في جنوب الوطن، ترسم خطوات العائدين حكاية لا تخطئها العين، صورٌ تفيض بالكبرياء لثائرين بلا رصاص، وقفوا أمام الدبابات ساخرين من خوف المحتل، وكأنهم يقولون للعالم: “هنا وطننا، وهنا سنبقى.”
تُطل الحاجة رباب نعمة من بين تلك الصور، كرمز حيّ للكرامة. تتقدّم بلا وجل نحو بيتها، الذي تحجبه دبابة ميركافا إسرائيلية. في عينيها إيمان لا يهتز، وفي خطواتها حكايات الانتماء. تواجه الجنود بعزيمة من يعرف أن الأرض تعطي لمن يستحقها. بابتسامة مطمئنة، تهتف: “القوة صناعة محلية، والأرض أرضنا والبيوت بيوتنا”.
لم يكن ذلك يومًا عاديًا، بل كان ميلادًا جديدًا للوطن. حملت الحاجة على عاتقها شجاعة الأمهات، وهتفت للجموع: “امشوا، فوتوا ع أرضكم!” فتقدّم المئات وراءها، لا يعيرون اهتمامًا لصوت الرصاص ولا تهديدات المحتل. فـ”الأرض أرضنا، والبيوت المدمرة بيوتنا”، هكذا قالوا، وهكذا مضوا.
في صباح العودة، بدت الدبابة الإسرائيلية صغيرة أمام عظمة مشهد اللبنانيين الذين عبروا الركام إلى بيوتهم، كأنهم يعودون من رحلة طويلة في الزمن. لم ترفع المقاومة نداءات التحشيد، ولم تطلب من أحد أن يتحرّك، لكنّ الأرض نادتهم فلبّوا. وقفوا في وجه المحتل ببداهةٍ عفوية، يهتفون بأصوات ملؤها الحياة: “هذي البلاد بلادنا!”
في الجانب الآخر من الحدود، كان الخوف قد أخذ مأواه في قلوب المستوطنين. يتساءل أحدهم: كيف نعود إلى منازل تطل على حياة الجنوبيين بكل تفاصيلها؟ كيف ننام بسلام فيما أغاني الأعراس اللبنانية وأذان الفجر يمتزجان في خلفية المشهد؟ كان ذلك مشهدًا يصعب احتماله: الحياة تنتصر على الحرب، والفرح يعلو فوق صوت الرصاص والقذائق.
على هدير زغاريد النساء، أدرك الإسرائيليون أن كلّ قنابلهم وصواريخهم لم تنجح في كسر إرادة من ولدوا من رحم الجنوب. المقاومة لم تكن شعارًا يُرفع، بل حياة تُعاش، ونبض لا ينقطع. لا يمكن قهر شعب يأخذ من دمه بوصلة، ويحوّل خط النار إلى درب عودة وحرية.
“هل أنتجت المقاومة شعبًا يرفع راياتها إذا تعثرت، أم أنتج الشعب مقاومةً تفي بحلمه، وتحمي حقه، وتعيده إلى حضن أرضه حين يتوه؟” سؤال يتركه التاريخ مفتوحًا، لكن الإجابة الحقيقية ليست في الكلمات، بل في خطوات العائدين الذين رسموا بدمائهم خريطة الوطن.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة