الوحيد الذي ينجو هو من يتناسب مقاسه مع السرير تمامًا، هذا ما جسدته الأسطورة اليونانيّة “سرير بروكرست”، وهذا هو طابع الواقع الذي نعيشه فكلٌّ منّا لديه في ذهنه سرير لبروكرست نبادر إلى حشر الأشخاص بالقوّة في أذهاننا ونتخلّص من كل من لا يتناسب مقاسه مع هذا السرير، من غير اعتبار أن لكل إنسان معتقداته وأفكاره وقوانينه الخاصة، قصّة مختلفة وأحلام ووجهة نظر وشخصيّة خاصّة تكونت على مدار حياته وتأثرت بعوامل مختلفة.
تقول أسطورة “سرير بروكرست” اليونانية القديمة، أن بروكرست رجلاً كان يعيش في غابات أثينا وكان ينتظر المارّة في مكانٍ ناءٍ كقاطع طريق. كان يعتقد أنه هو النموذج الأمثل للإنسانيّة المتكاملة، لديه سرير حديدي في منزله ويدعو كل من يمر بقضاء ليلة عنده و يعده بحسن الضيافة، وكان من شدّة جنونه يرى أن كل ضيف يجب أن يتوافق حجمه وطوله مع حجم سريره الحديدي الخاص.
إن كان الضيف أقصر من السرير كان يشدّه بأدواته بالقوّة حتى تتمزّق مفاصله من أجل أن يرضي جنونه في مقاييس سريره المطابقة لجسده. وإن كان الضيف أطول من السرير يقوم بروكرست بقطع أرجله ليتناسب مع سريره، ولم يكن لأحد أن ينجو من هذا المصير المرعب إلاّ من وافق طوله وحجمه مقاس السرير.
هذه الشخصية في الميثولوجيا هي مثال على كل من يعتبر أن مقاييسه الشخصية وأفكاره وقناعاته هي الأفضل للكون، بينما المختلفين عنه مجرد أشياء لا فائدة منها ولا حاجة لها.
لاطالما كانت البروكرستية متفشية في البشرية على مر الزمن فشملت كل الجوانب الحياتية والسياسية أيضًا، فكم من شعوبٍ مقهورة بُترت أوصالها لتأتي على مقاس حكّامها، وكم من أفكار علمية وثقافية وفلسفية مُطّت لتناسب مجتمعاتها، فكلٌّ يريدك خادم لأفكاره وأحلامه وأن تكون أداة لاستمراره.
كما استوحت أوروبا من هذه الأسطورة في العصور الوسطى جهاز تعذيب مرعب يدعى المخلعة يشبه السرير، يُمد عليه الضحية وتُربط أطرافه ثم يقومون بسحبه بواسطة الحبال حتى تتكسّر عظامه وتتقطّع أوصاله، كل هذا لنزع الاعترافات من الضحية.
كما طُبّق هذا الفكر في عالم السياسة حيث رسمت الحكومات خططها المستقبليّة وفقًا لهواها ومطتها لتجعلها مناسبة قسرًا للشعوب بغض النظر إذا كانت تُلائم المصلحة العامة أم لا.
ومن الناحية الفكرية كانت هذه الأسطورة إلهامًا لفرض قوالب ومعايير مسبقة على الأشياء والأفكار، فتجد الكثير مِن مَن يلوّنون الحقيقة لكي تناسب أفكارهم متجاهلين الأوجه والآراء المخالفة.
فهذا الحاكم الذي يريد الشعب كلّه في قالبٍ واحد، وذلك العالِم الذي يريد لك أن تكون مسلوب الإرادة ليصب فيك أفكاره كما يراها هو، وهذا التنظيم الذي يريدك أن تلغي نفسك وتتبعه على عمًى، وذلك الإعلام “الحر” الذي كل همه أن تخدم سياسته، وتلك العائلة التي تقمع أبنائها لتتماشى قهرًا مع عاداتها وتقاليدها البالية. وهذا محدثك الذي يريدك في نهاية الحوار أن تتبنّى أفكاره، كلّهم ورثوا هذا الفكر البروكرستي وأبت أرواحهم الشرسة إلاّ أن تلتهم كل من يعارضها.
حاولوا أن تقذفوا سرير بروكرست من أذهانكم ولا تضعوا الأشخاص في قوالب صنعتموها أنتم بأيديكم، فلكلٍّ منّا أحلام وأفكار ومعتقدات وتجارب خاصة لا تأتي بالضرورة على مقاس الآخرين. فلا تُنهك جسدك محاولاً مطّه أو بتره ليسع في رؤوس الآخرين، فبروكرست في النهاية قُتل مقطوع الرأس على يد “ثيسيوس” ليتناسب مع سريره الذي لم يكن على مقاسه منذ البداية، فشرب من نفس الكأس الذي أذاق مرارته للكثيرين.
هديل هاشم – محررة ومترجمة