سجِّلْ… أنا صالح،
ابنُ هذا الترابِ الذي لا ينامُ،
ولدتُ على صخرةٍ من وجعٍ
تغنّي لها الريحُ أغنيةَ الأمهاتِ،
وشربتُ الحقيقةَ قبلَ الحليبِ،
فصرتُ أرى وجهَ وطني
في عيونِ الجياعِ،
وفي خبزِ الفقراءِ المبلولِ بالصبـرِ.
سجِّلْ… أنا صالح
إعلاميٌّ،
صوتي مرآةُ الناسِ،
وقلمي ميزانُ هذا الغيابِ.
لم أُبايعْ،
لم أساوم
ولم أُصافحْ، يدًا تخفي خنجَرَها
في باطنِ الكفِّ.
كنتُ أقولُ الكلمةَ كما هي،
لا كما يريدُ السلطانُ.
سجِّلْ…
أنا من وطنٍ يقولونَ إنَّهُ الوطنُ،
لكنَّهُ يشبهُ الخريطةَ أكثرَ من الحلمِ.
فيه يُوزَّعُ الهواءُ بالرخصةِ،
ويُعلَّقُ الصدقُ في نشراتِ المساءِ.
فيه يُكافأُ الصمتُ،
ويُنفى السؤالُ إلى أرشيفِ الممنوعاتِ.
سجِّلْ…
لقد علّمتني الكاميرا
أنّ الضوءَ لا يخافُ الرصاصَ،
وأنَّ الصورةَ
أصدقُ من وجوهِ المجرمينَ في المؤتمراتِ.
كنتُ أرى الحقيقةَ تَهوي أمامي،
وأحملُها على كتفي
كجثمانٍ من وطنٍ يختنقُ.
سجِّلْ… أنا صالحُ،
قتلوني…
بسبعِ رصاصاتٍ،
لكنَّ الرصاصَ لا يفهمُ اللغةَ.
هو يقتلُ الجسدَ،
ويتركُ الفكرةَ تمشي على قدمَيْنِ من نورٍ.
فكتبتُ دمي سطرًا أخيرًا:
من يقتلُ الصوتَ، يوقظُ الصدى.
سجِّلْ…
من قتلني؟
ليسَ الغريبُ،
بلْ مَن باعَ ظِلَّهُ للصهاينةِ في الداخلِ،
مَن قبّلَ حذاءَ العدوِّ
وأدارَ وجهَهُ عن أوجاعِ أمّي.
هُمُ الذينَ يبيعونَ دموعَ الأمهاتِ في نشراتِ الأخبارِ،
ويشربونَ الخوفَ نخبَ السيادةِ.
سجِّلْ… أنا صالح
أنا لم أمتْ،
فالشهيدُ لا يموتُ مرتين،
لكنَّكَ تشيخُ كلَّما خَسِرتَ صادقًا.
أنا فيكَ نبضٌ من ركامٍ،
صوتٌ من ضوءٍ،
ورائحةُ خبزٍ لا تموتُ.
سجِّلْ… أنا صالحُ،
أنا من قالَ “لا”
حينَ كانتِ “لا” تُكلّفُ الحياةَ.
أنا من اختارَ الحقيقةَ
ولم يخترِ الأمانَ،
ومن عرفَ أنّ اليدَ التي تُصافحُ
قد تخونُ،
لكنَّهُ مدَّها بالصدقِ
لا بالسكّينِ.
سجِّلْ…
أنا الآنَ في الغيابِ،
لكنّني أسمعُكمْ تكتبونَ اسمي،
وأرى دموعي في عيونِكمْ،
وأعرفُ أنَّ كلَّ رصاصةٍ
لم تقتلِ الحُلمَ
ستعودُ إلى صدرِ قاتلِها في النهايةِ.
سجِّلْ… أنا صالحُ،
ابنُ هذا الوطنِ المصلوبِ على أسلاكِ الأخبارِ،
لكنّي ما زلتُ أؤمنُ…
أنَّ الكلمةَ
آخرُ ما يملكهُ الإنسانُ
حينَ يصمتُ الجميعُ.
بقلم رئيس التحرير، حسين عباس غزالة
لروح الشهيد الصحفي الفلسطيني، صالح الجعفراوي الذي إستشهد على يد العصابات التابعة للعدو الإسرائيلي..