الحب حاجة إنسانية أساسية. فمنذ الطفولة، يبحث الإنسان عن الأمان والقبول والدفء في عيون الآخرين. لكن المفارقة أن كثيرين يجدون أنفسهم عالقين في علاقات لا تُشبههم، يركضون فيها وراء أشخاص لا يبادلونهم الاهتمام، أو يستنزفون طاقتهم في محاولات لإرضاء طرف لا يقدّر قيمتهم.
السؤال هنا ليس عاطفيًا فحسب، بل وجودي ونفسي في العمق: لماذا نتمسك بعلاقات غير صحية، بدل أن نتركها ونحمي أنفسنا؟
الأخصائية النفسية الدكتورة كوثر غندور تضع مجموعة من التفسيرات التي تكشف الخلفيات النفسية والاجتماعية لهذا السلوك، وتضيء على الجذور العاطفية التي تجعل الانفصال صعبًا رغم وضوح الضرر.
الوهم الأول: قيمة الذات عبر من يرفضنا
تقول غندور إن بعض الأشخاص يعتقدون دون وعي أن قيمتهم الشخصية ستتجلى فقط إذا استطاعوا كسب حبّ من يرفضهم. هنا تتحول العلاقة إلى ساحة اختبار للذات، وكأنهم يعيدون تمثيل مشهد قديم من حياتهم على أمل أن يكتبوا نهاية مختلفة. لكن النتيجة غالبًا ما تكون مزيدًا من الألم، لأن القبول القسري لا يبني حبًا حقيقيًا.
الجذور التربوية: الحب المشروط
من الطفولة، قد يتعلم بعض الأفراد أن الحب لا يُمنح ببساطة، بل يجب “استحقاقه” عبر الطاعة، التفوق، أو تلبية توقعات الأهل. هذه البرمجة النفسية تترسّخ في اللاوعي، لتظهر لاحقًا في العلاقات العاطفية. فيسعى الشخص جاهدًا لإرضاء الشريك، معتقدًا أن الحب يُكسب بالجهد والتضحيات لا بالقبول الطبيعي.
إعادة إحياء جروح الماضي
أحيانًا، لا يكون التمسك بالآخر إلا محاولة غير واعية لتعويض نقص قديم. من لم يحظَ بقبول أحد الأهل أو باهتمام شخصية مهمة في طفولته، قد يجد نفسه منجذبًا – بلا وعي – لأشخاص يُشبهون تلك النماذج. فيبقى يكرر التجربة ذاتها في الحاضر، وكأن الماضي يطل برأسه من جديد مطالبًا بالإصلاح.
أسطورة التغيير
من أكثر المعتقدات شيوعًا وخطورة، وفق غندور، الاعتقاد بأن الحب قادر على تغيير الآخر. كثيرون يتمسكون بعلاقات مرهقة بدعوى أن الطرف المقابل “سيتغير مع الوقت”، أو “سيعرف قيمتي لاحقًا”. لكن الواقع أن التغيير قرار ذاتي، لا يأتي تحت الضغط أو بدافع تضحية الآخر. الانتظار هنا لا يعني سوى إطالة المعاناة وتعليق السعادة على احتمال قد لا يتحقق.
المفهوم المغلوط عن الحب
تلخص الدكتورة كوثر غندور الفكرة بجملة واضحة:
“أوقات منِتعب لِنثبِت إنو هالشخص بيستاهل الحب. هيدا المفهوم غلط. اللي ما بشوف قيمتك من الأول، ما رح يشوفها شو ما قدّمت أو ضحّيت.”
الحب الحقيقي ليس معركة إثبات، بل علاقة متوازنة قائمة على القبول والاحترام. ومن لا يرى قيمتك منذ البداية، لن يراها لاحقًا مهما كانت التضحيات.
البعد الاجتماعي والثقافي
لا يمكن إغفال أثر الثقافة المجتمعية. ففي كثير من البيئات، يُنظر إلى التضحية المفرطة باعتبارها علامة على الحب الصادق، حتى لو جاءت على حساب الكرامة. وتُعيد الأعمال الدرامية والإعلامية إنتاج صورة رومانسية مزيّفة، تُطبع في الوعي الجمعي على أن الحب معاناة وصراع، بدل أن يُقدَّم كعلاقة ناضجة تقوم على التوازن والاحترام المتبادل.
كيف نكسر الحلقة؟
إن كسر هذه الحلقة يبدأ من الوعي: أن نفهم أن ما نشعر به قد لا يكون حبًا ناضجًا، بل انعكاسًا لجروح سابقة.
ثم تأتي إعادة تعريف الذات: أن نعي أن قيمتنا لا تُقاس برأي الآخرين، ولا تحتاج إلى رضاهم كي تُثبت.
وأخيرًا، الشجاعة: شجاعة الانسحاب من علاقة لا تُشبهنا، والاعتراف بأن الاستمرار فيها يضر أكثر مما ينفع.
ختاماً، أن التمسك بعلاقات غير صحية ليس ضعفًا في الشخصية، بل هو نتيجة تراكمات نفسية واجتماعية معقدة. لكن إدراك هذه الدوافع هو الخطوة الأولى نحو التحرر منها.