في قرى الجنوب اللبناني، حيث تهمس الجبال بأسرارها للوديان، وتنحني أشجار الزيتون احتراماً لقدم التاريخ، وُلِدَ شاعرٌ حمل في قلبه ناراً من المشاعر، وفي جيبه قصائدَ غنتها فيروز فيما بعد دون أن يعرف أحدٌ أنه كاتبها.
السيد المعمم علي محمد جواد بدر الدين (1949 – 1980) كان رجلاً من عالمين: عالم الفقه والدين، حيث العمامة السوداء والخطب الجليلة، وعالم الشعر والوجدان، حيث الحب العفيف والكلمات التي تذوب كالندى على شفاه الصباح.
درس في النجف، مدينة العلم والأدب، لكن قلبه كان معلقاً بالقصائد التي يكتبها في الخفاء، خوفاً من نظرات المجتمع الذي كان يرى في الشعر الغزلي خروجاً عن المألوف لرجل دين.
اللقاء المصيري مع الفن
في إحدى زياراته إلى الجنوب، جاءه من يعرف أن لديه كنزاً من القصائد التي كتبها في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة، حين كان القلب أول ما يفيض بالشعر قبل أن يتعلم الحذر. عرض عليه صديقٌ أن يبيع بعض هذه القصائد لمن يلحنها ويغنيها، فتردد الشيخ الشاب، لكن الفن كان أقوى منه.
وافق بشرط واحد: “لا تذكروا اسمي.”
وهكذا، بترتيب من صديق، التقى بعاصي الرحباني، الذي لم يصدق أن هذه القصائد العذبة كتبها شاب في العشرين من عمره، بل بعضها كتبه وهو في سن الصبا! اشترى عاصي عدة قصائد، ثم حولها إلى أغانٍ خالدة بصوت فيروز.
“أنا يا عصفورة الشجن”
من بين تلك القصائد، جاءت الأغنية التي صارت علامة في تاريخ الأغنية العربية:
أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن
بي كما بالطفل تسرقه أول الليل يد الوسن
و اغتراب بي و بي فرح كارتحال البحر بالسفن
أنا لا أرض و لا سكن أنا عيناك هما سكني
راجع من صوب أغنية يا زمانا ضاع في الزمن
صوتها يبكي فأحمله بين زهر الصمت و الوهن
من حدود الأمس يا حلما زارني طيرا على غصن
أي وهما أنت عشت به كنت في البال و لم تكن
كلمات تذوب رقة، لحن يسري كالنهر، وصوت فيروز الذي جعل من الكلمات نوراً يسطع في سماء الفن.
النهاية المأساوية
لكن القدر لم يمهله طويلاً. في عام 1980، بينما كان في طريقه إلى المسجد، اختُطف، ثم عُثر على جثته في أحد أودية الجنوب، عليها آثار رصاصات وتعذيب. مات شاباً في الثلاثين من عمره، تاركاً وراءه سراً لم يُكشف بالكامل: من قتله؟ ولماذا؟
السر الذي بقي مع الريح
ظلت أغانيه تُغنى دون أن يعرف أحدٌ أنه كاتبها، حتى كشف السر بعد موته بسنوات. اليوم، صار اسمه يُذكر باحترام، لكنه ظل “الشاعر المخفي”، الذي أعطى الفنَّ أجمل ما لديه، ثم رحل بصمت، كعصفور شجن، بلا وطن.