حين نذكر الشعر العربي الحديث، يبرز اسم محمود درويش كأحد أعمدته الراسخة، ليس فقط كشاعر فلسطيني ارتبط اسمه بالقضية، بل كمبدع صاغ لغة استثنائية تجاوزت الجغرافيا، لتصبح صوته الشعري علامة عالمية. لقد كان درويش أكثر من مجرد شاعر مقاومة، بل كان فيلسوف الحنين، وحارس الذاكرة، وصانع الجمال في زمن القبح.
حياة درويش.. سيرة وطن في رجل
وُلد محمود درويش في 13 مارس 1941 في قرية البروة الفلسطينية، التي دُمّرت بعد نكبة 1948، ليصبح لاجئًا في وطنه، وهي التجربة التي ستطبع كل أعماله لاحقًا. تنقّل بين بيروت، والقاهرة، وباريس، وتونس، لكنه ظل دائمًا يحمل فلسطين في قلبه وقلبه في فلسطين.
عاش درويش تجربة المنفى بكل ما تحمله من ألم الحنين ولوعة الانتماء الممزق، ورغم كل الرحلات، ظل يقول: “وأنا لا أنتمي إلا لهذا الرصيف”. كانت حياته أشبه بحياة الطيور المهاجرة التي تحمل أوطانها في أجنحتها.

الشاعر والهوية.. بين المقاومة والحلم
غالبًا ما يُختزل درويش في شاعر القضية الفلسطينية، لكن حصره في هذا الإطار فيه ظلمٌ كبير له. صحيح أنه كتب قصائد أصبحت أيقونات للمقاومة، مثل “سجِّل أنا عربي”، لكنه أيضًا كان شاعر الإنسانية، والحب، والوجود، والموت، والفلسفة.
في قصائده، كان درويش يطرح أسئلة كبرى عن الهوية:
- هل الوطن هو الجغرافيا أم الذاكرة؟
- هل يمكن للمنفى أن يصبح وطنًا؟
- ماذا يعني أن يكون الإنسان عربيًا في عالم لا يراه إلا كرقم في نشرة الأخبار؟
كتب عن القضية، لكنه رفض أن يكون صوته مجرد شعار سياسي أجوف، فهو الذي قال: “الشعر ليس بيانًا سياسيًا، بل هو جماليات تسكن الألم”.
لغة درويش.. موسيقى الشعر العربي الحديث
أحد أهم ما يميّز درويش هو لغته الشعرية، التي جمعت بين البساطة والعمق، الرومانسية والفلسفة، التراث والحداثة. كانت كلماته أشبه بموسيقى تمزج بين إيقاع الشعر العربي التقليدي ونَفَسٍ حداثي جعل شعره قريبًا من كل الأجيال.
أبدع في استدعاء الرموز التاريخية والدينية والأسطورية، فكانت قصائده تمزج بين المتنبي، وأبي العلاء المعري، وجلجامش، ويسوع المسيح، وأسطورة سيزيف. كل ذلك في قالب شعري متفرّد جعله أيقونة لا يمكن تكرارها.
درويش والحب.. حين يكون العشق وطناً
لم يكن درويش شاعر الثورة والمنفى فقط، بل كان أيضًا شاعر الحب العميق. قصائده العاطفية كانت تحمل بُعدًا فلسفيًا، فلم يكن الحب لديه مجرد علاقة بين رجل وامرأة، بل كان بحثًا وجوديًا عن الأمان والاكتمال.
في قصيدته “يطير الحمام”، يقول:
“يَطيرُ الحَمامُ… يَحُطُّ الحَمامُ”
“سأَرْضَى بِمَا رَضِيَتْهُ لِيَ الحَيَاةُ مِنَ الأُمِّسِ”
كان الحب عنده مزيجًا من الرقة والحزن، ومن الفرح المؤقت والغياب الحتمي. لم يكن حبًا مكتملًا، تمامًا كما كانت حياته منفى لا نهاية له.
محمود درويش.. الشاعر الذي لن يعيده التاريخ
في 9 أغسطس 2008، رحل محمود درويش تاركًا خلفه إرثًا شعريًا لا يموت. غاب الجسد، لكن صوته ظل خالدًا، فقصائده لا تزال تُتلى في المظاهرات والندوات والمدارس، وأبياته أصبحت جزءًا من الذاكرة العربية الجمعية.
لن يعيد التاريخ شاعرًا مثل محمود درويش، لأنه لم يكن مجرد كاتب أبيات شعرية، بل كان صوتًا للإنسان العربي في ألمه، غربته، وتمرده. كان درويش وطنًا في رجل، وحنينًا في قصيدة، وغيمة لا تمطر إلا شعرًا.
في النهاية، يبقى السؤال الذي طرحه درويش يومًا:
“أيها العابرون على كلماتنا.. هل نسيتم أن الأرض لنا، وأنّ الماضي لنا، وأنّ الغد لنا؟”
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة