في بلادٍ تشبه المقابر أكثر مما تشبه الأوطان، رحل زياد الرحباني.
لم يرحل كأي فنان، بل كمن سئم أن يقاتل وحده، بالكلمة، بالنغمة، بالسخرية، في مواجهة وطنٍ لا يسمع، ولا يرأف، ولا يتذكّر إلا متأخراً… بعد الفوات.
زياد لم يمت فجأة، بل تسرّب من بيننا قطرةً قطرة، كأن الحياة تذوب فيه بصمت.
ومعه، ذاب وطنٌ آخر كان في داخله: وطن من عدالة مؤجلة، من موسيقى بلهجة الجوع، من مسرح لا يرتّب الكراسي بل يهزّها.

ابن الرحابنة… الخارج عن السطر
ابن فيروز وعاصي، كان من المفترض أن يكون وريثًا سلسًا لعرش الأغنية اللبنانية الراقية.
لكنه اختار طريقًا آخر. لم يركع لمجد والديه، بل صنع مجده وحده من ضجيج الشوارع، من رائحة القهوة في مسرح “بالنسبة لبكرا شو؟”، من تنهيدات الشعب المخنوق.
كتب ولحّن وأخرج، لكنه قبل كل شيء قال الحقيقة.
في زمنٍ صار فيه قول الحقيقة فعلاً من أفعال الشغب، كانت موسيقاه نشيدًا وطنياً لوطنٍ موجوع، لا نشيدًا لسلطةٍ تتزين بالزيّف. لم يُولد زياد ليُجمّل الدولة، بل ليُعرّي فسادها حبًّا بالوطن، لا خروجًا عليه.
علاقته بالسلطة… دفتر خيباتٍ طويل
لم يكن لزياد كرسيٌّ في الصفوف الأولى. لم يكن “فنان السلطة”، ولم يغنِّ للزعيم، ولا مدحَ نشيدًا لم يكتبه.
لذلك، لم يكن غريبًا أن تُدير له الدولة ظهرها حين مرض.
في أيامه الأخيرة، تراكم المرض في كبده، في قلبه، وربما في ذاكرته.
لكنّ الدولة ظلّت بعيدة. لا دعم، لا وفد طبي، لا قرار رسمي بالعلاج، لا نقل إلى الخارج، فقط دعم معنوي خجول.
أعلنت وزارة الثقافة أن “خطط علاجه تحوّلت إلى أفكار بالية”، وكأننا نتحدث عن رجلٍ عادي، لا عن زياد.
هذا الاعتراف وحده، اعترافٌ رسميٌ بأن الدولة تخلّت.

مات زياد… بصمتٍ يشبه وجعه
في ٢٦ تموز 2025، أسدل زياد الرحباني الستار على حياته، كما عاشها دومًا: بعيدًا عن السلطة، قريبًا من الناس.
لم يكن المرض أقوى منه، بل كان غياب الدولة أوجع من أي وجع.
لم تمت موسيقاه، لكنها اختبرت وفاءنا نحن فنانون، مثقفون، وشعبٌ بأكمله يقف اليوم أمام مرآة الخذلان، ليشهد أن هذا الوطن لا يملك قلبًا يحتضن أبناءه، حتى حين يكونون صوته الأصدق، ونبضه الأجمل.
في وداعه… ماذا بقي؟
بقيت أشرطته، مسرحياته، أغنياته الساخرة التي تُبكينا، ومقطوعاته التي لا تزال تُعزف في ذاكرة كل من أحبّه.
لكن بقي أيضًا هذا السؤال المُر:
هل شاركت الدولة بموت زياد الرحباني؟
بالإهمال، بالصمت، بعدم المحاولة.
في القانون، لن تُدان. لكن في الضمير، هي مسؤولة.
وفي الختام…
زياد لم يكن فنانًا عاديًا، بل ضمير وطنٍ مكسور.
وحين ينكسر الضمير، لا تبقى موسيقى، لا يبقى مسرح، لا تبقى ذاكرة.
نحن الذين خسرنا، لا هو.
فيا وطن، إن كنت لا تعرف كيف تحمي أبناءك الأوفياء،
فلا تقل إنك وطن.