ماذا نفعل حين يغيب عنّا المبدعون؟ حينما تنطفئ الأنوار التي كانت تضيء الطريق، ويبقى الظلام ممتدًا في أفئدتنا مثل خطى عابرة في مسار الزمن؟
في مثل هذا الصمت الثقيل، بعد أن انصرف المعزّون، وتفرّقت الجموع، ولم يبقَ غير الفراغ الذي يقتات على الذكريات، أي حديثٍ يصلح لإثبات وجودنا في هذا العالم الغريب؟
هذا ما يسأله قلبي الآن.
في قاعة العزاء التي خلت من ضحكات الزمان، هناك فيروز، الأم التي أُعِيدت تشكيلها من أنامل القدر لتكون جوهرة لبنان المتألقة، لتغني للشعب، ولتُلهب النار في صدورنا.
لكن اليوم، نحن لا نتحدث عن فيروز النجمة التي أضاءت السماء، بل عن نهاد حداد، المرأة التي حملت طفلاً في قلبها، وظلّت تزرع في قلبه أرضًا لا تيأس، وتغرس فيه الحب الذي لا يموت.
هي التي رافقت زياد الرحباني في رحلة الألم والفرح، بينما كان يحترق في مسرحه، وتضيع ألحانه بين التراجيديا والملهاة.
اليوم، بعد أن فقدت رفيقها، وهي التي رأت ابنها يمضي على دروب الحياة، مع كل ما حَوَتْه من صعوبات، تأتي اليوم وتُودّع ابنها زياد، الذي رحل ليترك في أرواحنا خُطوطًا من موسيقى لا تموت.
الوجع في حضرة الغياب
أفكر في فيروز، تلك التي استحالت أيقونة في نفوسنا، تلك التي غنّت لنا في الأوقات العصيبة، وفي الفجر الذي يرفض أن يشرق.
في داخلها، لا يتوقف الوجع، بل يتجدّد ويكبر مع كل ذكرى تخلّفها الأيام في قلبها.
هل ستنكسر يديها الآن؟
هل تخرج دموعها التي كانت تخفيها في أغانيها، وكأنها جبلٌ يحترق من الداخل، ولكن لا يسقط؟
هل تضع رأسها الآن على وسادة الحياة في هذه اللحظة النبيلة من الحزن؟
لكن في هذه اللحظة أيضًا، تبقى الأسئلة التي لا تُجيب عنها الكلمات، الأسئلة التي تبقى معلقة في الهواء مثل أغنية غير مكتملة.
هل كانت الأمّ فيروز هي الصدى الوحيد لرحيل زياد؟
هل كان هو الصوت الذي يَسكن فينا؟
زياد الرحباني، ذلك الذي صنع مع نفسه مسرحًا لوعي الأمة، أغنياته كانت أسئلة وجودية بلا إجابات.
الفن والمقاومة: ما بين الحياة والموت
لقد كان زياد سؤالًا دائمًا للزمن.
كان موسيقى تُرسم على حائطٍ مكسور، لكن لا تزال تعكس الضوء.
ماذا يتبقى عندما يموت الحلم؟
هل يصبح الحزن وسيلةً للوجود؟
هل تُختزل الحكاية بأن يصبح صوت زياد هو الحلم الذي يعيد إحياء الوطن؟
لم يكن زياد الرحباني مجرد فنان، بل كان رمزًا لمقاومة كل ما هو عادي، كل ما هو تافه في الحياة.
كان الروح المتمردة التي لا تنكسر.
لكن الآن، تظل أسئلته فينا، نقيس بها أوجاعنا:
من نحن؟ وما هو موقفنا مما يحدث حولنا؟
نعم، كانت أغنياته
ثورة في صمت،
مقاومة للحظات الضعف، والظلم، والانكسار.
كانت موسيقى الحياة التي نشربها، في وقت لم يكن فيه وطن يحتمل الحياة.
كان زياد يجسد روح الصمود، وفي قلبه كانت الفكرة هي الفن، والشعر هو الذي يحفر في الذاكرة، ويغير وجه التاريخ.
في ذاكرة الفن: كيف نُخلّد زياد؟
ماذا يبقى بعد الرحيل؟
كيف يمكن لفنٍ خالد مثل فن زياد الرحباني أن يبقى، ويُحفظ من النسيان؟
قد يبدو الألم لا يُشفى، لكن هناك في قلب كل واحد منّا، هناك في الذاكرة الجماعية،
ألحان زياد الرحباني نُقشت فينا كأبجدية الروح.
نحن مطالبون اليوم بأن نحفظ إرثه كما يُحفظ الذهب في خزائن الذاكرة.
علينا أن نكمل المسيرة التي بدأها، وأن نحمي مسرحاته، ألحانه، ونصوصه الساخرة
التي قدّمت رؤية لمجتمع مأزوم، لم يُعِر الاهتمام إلا للمناصب والمال.
كان قد كشف أعماق هذا المجتمع، ووجّه سهامًا حادة إلى قلبه.
الوفاء لأرواح الشهداء
ولكن الوفاء لا يكون فقط بالكلمات، بل بالأفعال التي تستحق الفنان.
لن تكفي أبدًا كلمات العزاء التي تملأ الآفاق.
يجب أن نحفظ إرثه في ذاكرة العصر،
وأن نُعيد إحياء شوارع بيروت، شوارع الحمرا التي كانت بيته، ومكانه الذي تنفس فيه الحياة بكل تفاصيلها.
مكانٌ قدّم فيه أعماله، وغنّى في حاناته، وأضاء خشبات مسارحه.
يجب أن يُكتب اسمه على أحد شوارع بيروت، عوضًا عن تلك الأسماء التي تُمجد الاستعمار،
وهو أحق من هؤلاء الذين لا يزالون يسيطرون على ذاكرة الأرض.
إلى فيروز: فيروز التي تظلّ أمّة
يا من كنتِ الصوت الذي جعلنا نرى حقيقة الوجود،
يا من غنّيتِ للوطن في لحظات الحزن والدم،
ستظلين الأيقونة التي تلونت بدماء الشهداء والأحلام التائهة.
ألحان زياد ستظل فينا، وهي أبدًا لن تنطفئ،
بل ستظل نجمًا في سماء الوجدان.
فقد كان زياد تساؤلًا لا ينتهي، ونحن نبحث دائمًا عن إجابات
في أغنياته التي نبتت من أرضٍ تُقاوم الفناء.
فيا من حملتنا بموسيقاكِ إلى أعالي التجلّي،
سنبقى نعود إليك،
نُعيد نبضك المبدع،
ونحفظ روحك في كل نوتة،
حتى تبقى الأغنيات التي أعطيتِنا إياها
شرفًا في طريقنا، ويظل الزمن دائمًا يعلو تحت أسمائك.