على مدى أسبوع مضطرب، تحولت محافظة السويداء السورية من منطقة ذات خصوصية شبه محايدة إلى بؤرة صراع دموي طائفي، راح ضحيته أكثر من 1000 قتيل، وفق تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان. وبينما يُتبادل الاتهام بين الحكومة السورية والعشائر البدوية من جهة، والجماعات المسلحة الدرزية من جهة أخرى، تتكشّف خيوط معقّدة تتجاوز حدود الجغرافيا السورية نحو ملفات إقليمية تتداخل فيها إسرائيل، تركيا، والأكراد، تحت عنوان غامض: “ممر داوود”.
فما الذي يحدث فعلياً في السويداء؟ ولماذا الآن؟ وهل نحن أمام محاولة إعادة رسم خارطة الجنوب السوري بما يتجاوز الصراع العشائري المباشر؟ هذا التحقيق يحاول تفكيك المشهد من جذوره السياسية، الاجتماعية، والتاريخية.
أولاً: السويداء… “جزيرة الحياد” التي ضاقت بها الدولة
لم تكن السويداء يوماً كباقي المحافظات السورية. فمنذ اندلاع الثورة عام 2011، نأت الطائفة الدرزية بأبنائها عن الانخراط في القتال، ورفضت الزج بهم في الحرب ضد معارضي النظام أو الجماعات الجهادية. هذا الموقف أكسبها خصوصية، لكنه في الوقت نفسه عرّضها للضغوط من كافة الأطراف: السلطة، المعارضة، وحتى الخارج.
ولم تُخف دمشق امتعاضها من “الاستقلالية السياسية والعسكرية” التي فرضها أبناء السويداء عبر تشكيلات محلية مثل رجال الكرامة، رافضين تجنيد أبنائهم خارج المحافظة. ومع مرور الوقت، تحوّلت السويداء إلى نموذج مصغّر لـ”الحكم المحلي”، تُدار قراراتها عبر مشايخ العقل والمجالس المدنية، في ظل تراجع سطوة الدولة.
ثانياً: جذور الاشتباك الحالي… خلاف أم تصفية حسابات؟
الاشتباكات الدموية التي اندلعت في 13 تموز 2025 بين عناصر من العشائر البدوية ومقاتلين دروز ليست وليدة لحظة انفعال. بل جاءت بعد أشهر من التوترات الميدانية، تضمنت عمليات خطف متبادل، صراع على المعابر والموارد، وأخبار عن دعم حكومي مباشر للعشائر لتقويض القوة المحلية الدرزية.
وفي ذروة هذه التوترات، دخلت القوات الأمنية السورية على خط النار، ليتهمها ناشطون بتنفيذ إعدامات ميدانية سلب، وانتهاكات بحق مدنيين دروز، وسط انهيار كامل للمنظومة الإنسانية في السويداء، من مشافٍ، مياه، وكهرباء. تقارير عدة أفادت أن غرف التبريد في المشافي امتلأت بالجثث، بينما بقي العشرات دون دفن لأيام.
في المقابل، وثقت مقاطع مصوّرة لإحتجاز عدد من النساء والأطفال البدو في ريف السويداء، ما أشعل فتيل الحقد المتبادل ودفع بعض العشائر لإعلان النفير العام باتجاه السويداء.
ثالثاً: من يحرّك الخيوط؟ الدور الإقليمي الخفي
أ) إسرائيل: حماية الدروز أم اختراق حدود؟
بعيداً عن العواطف، تدخّل إسرائيل في ملف السويداء لم يكن إنسانياً بحتاً. فقد شنّت غارات جوية استهدفت مواقع للجيش السوري قرب دمشق ومحيط السويداء، معلنة أنها “تحمي الدروز من المجازر”.
لكن خلف هذا الخطاب، ترى مصادر سياسية أن تل أبيب تسعى لفرض معادلة أمنية جديدة:
- إنشاء ممر بري يربط الجولان المحتل بالسويداء وشمال شرق سوريا، مروراً بمنطقة التنف.
- توظيف القوى المحلية الدرزية (وربما الكردية لاحقاً) لضمان جدار أمني استباقي جنوب سوريا.
- ضرب سيطرة دمشق على الجنوب وتفكيك العمق الجغرافي بين العاصمة والحدود.
ب) الولايات المتحدة: صمت تكتيكي
رغم الدعوات الأمريكية لوقف القتال وتقديم مساعدات إنسانية، فإن واشنطن لم تمنع تل أبيب من تنفيذ غاراتها، ولم تُعارض عملياً تحركات العشائر، ما يفسّره مراقبون على أنه ضوء أخضر غير معلن لتقويض نفوذ دمشق في السويداء.
ج) تركيا: العين على “ممر داوود”
تعتبر أنقرة المشروع الإسرائيلي-الكردي-الدرزي تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خاصة إن تم ربطه بمناطق الأكراد شمال سوريا. وقد عبّر المسؤولون الأتراك عن خشيتهم من إعادة إنتاج “كردستان مصغّرة” على حدودها الجنوبية، هذه المرة بتنسيق مع إسرائيل.
رابعاً: مجتمع ممزّق وهوية في مهب الريح
السويداء اليوم تواجه خطر الانقسام الداخلي:
- هناك من يطالب بالعودة إلى الدولة السورية شرط الحماية.
- وهناك من يرفض التبعية لدمشق ويدعو لحكم محلي مستقل.
- وهناك من يرى في “الحماية الإسرائيلية” فرصة، رغم أنها مرفوضة جماهيرياً على نطاق واسع.
إلى جانب ذلك، العلاقة بين الدروز والعشائر البدوية دخلت مرحلة العداء الوجودي. الخوف من الانتقام، الخطف، وإهانات متبادلة للمقدسات والشيوخ، كلها عوامل تعمّق الشرخ وتُهدد بانفجار دائم لا ينفع معه وقف إطلاق نار هش.
خامساً: هل هو مشروع انفصال ناعم؟
من خلال تتبع الأحداث، يمكن تلمّس خريطة ثلاثية الأبعاد لمشروع بدأ يتحقق تدريجياً:
وهذا يُعيد إلى الأذهان تجارب التقسيم الناعم في دول مثل العراق (كردستان)، ما يثير سؤالاً وجودياً: هل بدأ العد التنازلي لوحدة سوريا؟
سوريا عند مفترق حاسم
ما يحدث في السويداء ليس فقط اشتباكاً طائفياً أو فورة محلية. إنه اختبار كبير لوحدة سوريا وهويتها الوطنية. المشروع المطروح يتجاوز درعا والبادية والجولان. إنه محاولة لخلق واقع جديد بقوى محلية وغطاء خارجي.
والسؤال الأهم: هل تستطيع دمشق احتواء الأزمة دون الغرق في الدم؟ وهل يبقى الدروز كتلة وطنية متماسكة، أم يُستدرجون إلى مشاريع لا تشبه تاريخهم الذي صنعه سلطان باشا الأطرش، يوم قال:
“الدين لله والوطن للجميع”.