في صباح الثالث والعشرين من أيلول، استيقظ الضوء على استحياء، يتسلّل مثل سارقٍ بين أوراق التين في حديقة المنزل الصغير على أطراف الجنوب.
كان صباحًا يُشبه الأحلام البسيطة التي لا تتنبأ بالفقد. السماء زرقاء حدّ الخديعة، والهواء محمّل برائحة الطابون والنعناع، وأمه تهمس من المطبخ:
“انهض يا قمر البيت… اليوم سنخبز على التنّور.”
كان صوتها ناعمًا، يحمله دفء لا يُنسى. نهض حيدر وهو يفرك عينيه، لا يعلم أن هذا الصباح بالذات، كان آخر ما تبقى له من الطفولة، وأنّ شيئًا ما على وشك أن يقتلع قلبه، من دون إذن، ويزرع في صدره حربًا لا تُرى، لكن تُبكِي.
فجأة، دوّى الصراخ من السماء.
لا طير، لا غيم، فقط طائرات إسرائيلية غادرة تمزّق زرقة الفجر بصواريخ غادرة، لا تعرف غير لغة الرماد.
اهتزّت الأرض بعنفٍ، كأنها تريد أن تلفظ ساكنيها، كأنها تأبى أن تُدفن الحياة في رحمها.
اندفع والده من الداخل، عينيه تتسعان كفجر مذعور:
“حيدر! خذ أختك! إلى السيارة… بسرعة!”
وفي لحظة، انقلبت الحياة إلى فرار.
ركضوا كما تركض الطيور من نارٍ مُفاجئة، حفاة، مذعورين، لا يحملون شيئًا… لا ثياب، لا صور، لا خبز، لا دمى… حتى “نون”، دبدوب حيدر الذي كان ينام قربه كل ليلة، تُرك على السرير، يحدّق في الباب الذي لم يُغلق.
ركبوا السيارة القديمة… تلك العربة التي طالما قادتهم إلى العيد وإلى البحر وإلى المدرسة، صارت اليوم مركبة هروب.
كان صوت المحرّك متقطّعًا، كأن السيارة تشهق من الخوف أيضًا، والزجاج الأمامي يرتجف من صفير الطائرات.
داخلها، جلس حيدر يحتضن أخته الصغيرة كمن يحتضن العالم كله، وأمه تبكي بصمت، وأبوه يقود بعينٍ على الطريق، وأخرى على السماء التي لا ترحم.
الطريق إلى النزوح لم يكن طريقًا… كان فاصلًا بين الحياة والموت.
جثث لأناس يشبهونهم ممدّدة على الأرصفة، سيارات مقلوبة كأنها ألعاب أطفال دُفنت بالغضب، دخان كثيف، صراخ مقطوع من الحناجر، وعطر الدم يختلط بالتراب.
لم يكن هناك متّسع للبكاء.
كان حيدر يثبت نظره إلى الأمام، يشدّ على يد أمه، ويهمس في قلبه: لا تسقط… لا الآن.
بعد ساعات من التيه، وصلوا إلى مدينة بعيدة، باردة، غريبة.
طرقوا أبوابًا كثيرة، كل باب كان جدارًا، كل نافذة كانت صمّاء.
وحين خذلتهم المدينة، احتموا بمدرسة مهجورة. قاعة بلا مقاعد، بلا دفاتر، بلا دفء… فقط جدران مشقّقة، وأرض مفروشة بالغبار والحزن.
نام حيدر على البلاط، بلا وسادة، بلا غطاء… رأسه على ذراع أمه، ودمعة ساخنة تسقط من عينيها على جبينه، تسقي فيه طفولةً بدأت تذبل.
مرّت الأيام كما تمرّ المنافي داخل الروح. ستة وستون ليلًا، لا يُشبه أحدها الآخر، ولا يُشبه أيّها الحياة. كانوا يأكلون القليل، ثم أقل، ثم لا شيء. وحين انتهى المال، انتهى الخبز، وانتهى الدفء.
في الليل، لم يكن البرد وحده ما يوقظه، بل الأحلام المذعورة: يرى أمه تختفي في الدخان، أخته تغرق في الركام، ونون… نون الدبدوب، جالسًا قرب باب البيت، تغطيه الدماء ويبتسم له بعينٍ ممزّقة.
لكنّه لم يبكِ. كان أقوى من الحرب، من الجوع، من الوحدة. كل صباحٍ كان ينهض من موتٍ صغير، ويجمع ما تبقّى من يومه كفتات أملٍ في قبضة طفل لا يعرف كيف ينهار.
انتهت الحرب… أو هكذا قالوا.
توقّفت الطائرات عن الزئير، لكن في صدور الناس بقي الصدى.
قالوا: يمكنكم العودة الآن.
لكن، إلى ماذا يعود المرء إن كان بيته رمادًا، وذاكرته مثقوبة بالدخان؟
كان حيدر قد فقد القدرة على التمييز بين الأيام. الحرب اختطفت المعنى من كل شيء، حتى الزمن أصبح مجرد سواد متواصل.
ومع ذلك، حمل والده حقيبة فارغة، حملت أمه شقيقته النائمة على كتفها، وسار حيدر خلفهم… وعيناه تتفرّسان الطريق كمن يبحث عن وجه السماء في بركة راكدة.
الطريق إلى الجنوب لم يكن طريقًا، بل جرحًا مفتوحًا.
منازل متناثرة كالعظام، أعمدة كهرباء مائلة، أراضٍ محترقة، ورائحة بارود لا تموت.
السيارات المهترئة على جوانب الطريق لم تكن خالية… بل كانت مقابر صغيرة، تشهد أنّ أحدهم حاول الهرب ولم يُكمل.
حيدر لم يتكلّم.
حتى والدته لم تغنّ له هذه المرة كما اعتادت، لم تقل له “يا زين اللي رجع”، بل كانت تغلق فمها على شهقة تختنق في الحنجرة.
الناس تسير جماعات… كأشباح، أو كمن عاد من موت مؤقت. وجوه مصفرة، عيون متورّمة، خطوات ثقيلة، وكأنّهم يجرّون جنوبًا مثقلاً بالحزن لا بحقائبهم.
كلما اقتربوا من قريتهم، ازداد قلب حيدر خفقانًا.
هل سيجد غرفته؟ سريره؟ دفاتره؟
هل سيجد مرآته الصغيرة المعلّقة قرب النافذة؟
ألعابه؟ رائحة خبز أمه في الصباح؟
لكن حين لاحت ملامح القرية، تفجّر الصمت صراخًا داخليًا.
لا نوافذ… لا أبواب… لا جدران.
كل ما كان بيتًا صار حفنة من الركام.
صرخت أمه: “يا الله…”
وخرّ والده على ركبتيه، يدفن وجهه في راحتيه كمن يعتذر من الزمن.
أما حيدر، فركض.
ركض نحو الزاوية التي كان يعرفها… حيث كان يحتفظ بكنوزه الصغيرة: كتاب مصوّر، وعلبة ألوان، وصورة قديمة له وهو يضحك.
لكنه لم يجد إلا البلاط المكسور… والرماد.
وبين الحجارة، رأى شيئًا مألوفًا… صغيرًا… مهترئًا…
كان “نون” هناك.
عينيه واحدة فقط، وذراعه ممزقة، وعلى بطنه بقعة دم يابسة.
سقط حيدر على ركبتيه، مدّ يده المرتعشة، وضمّ دبدوبه إلى صدره.
أغلق عينيه، وبكى… بكى بصمت، بكاءً بلا صوت، كأنه يبكي نيابة عن الأرض، عن الطفولة، عن كل من مات ولم يجد أحدٌ حتى اسمه.
وفي لحظة، وبين الأنقاض، جاءت أمه… وضعت يدها على كتفه.
قالت بصوتٍ كأنّه ندى على رماد:
“نرجع نبني، يا حيدر… بس هالمرّة، رح نبني قلبنا قبل البيت.”
هزّ رأسه، ولم يتكلم.
لكن في عينيه، كانت هناك شرارة… صغيرة، ضائعة، لكنها حقيقية.
ربما لن يعود كل شيء كما كان،
لكن ما زال في قلب حيدر مكانٌ… للحياة.
وللنور.
وللدبدوب الذي نجا من الحرب شاهداً على وطن يُولد من بين الركام.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة