في زقاقٍ ضيّقٍ في صنعاء القديمة، يعلوه صدى ضحكات كانت تُزهر رغم فقر الحجارة وتشققات الجدران، وُلد نبراس.
أمه سمّته كذلك تيمّنًا بالنور، كانت تقول: “أردت أن أضع نورًا في هذا العالم الكثيف بالظلال… فسمّيته نبراس.”
ترعرع الفتى في كنف أمّ أرملة، فقدت زوجها في حادثة غامضة على الحدود الجنوبية، لكنّها ربّت ابنها على أنّ الرجولة ليست قسوة، بل صدق، وأن الشجاعة لا تعني حمل السلاح بل حمل الأمل.
كان نبراس شغوفًا بالهندسة. كل ما حوله ينهار، وكان هو يحلم أن يبني.
كان يصنع من أعواد الثقاب جسورًا، ومن علب الصفيح أبنية عالية، وكان يقول لأمه:
“سأعيد بناء هذه البلاد، يا أمّي، سأرفع السقف عن الفقراء، وسأجعل الأطفال ينامون دون خوف من شقوقٍ في الجدران أو شظايا في السماء.”
في سنّ السابعة عشرة، اندلعت الحرب.
لم يطرق الخوف بابه أولًا، بل طرقه الجوع.
ثم أتى انقطاع الماء، ثم الكهرباء، ثم المدرسة.
ولمّا غابت المدرسة، لم يجد في الحي سوى الشباب الذين يجلسون على الأرصفة يمضغون “القات” يتحدّثون عن البندقيات كما لو أنها مفاتيح أبواب المستقبل.
حاول نبراس أن يتجاهل كل شيء.
ظلّ يرسم في دفاتره أبراجًا، ومآذن، وحدائقَ معلّقة.
وفي ليلةٍ باردة…
كان الهواء ثقيلاً، مشبّعًا برائحة الخوف والدخان.
غفت المدينة على جفن مرتعش، تتقلّب بين قذيفة وصرخة.
وفي تلك الليلة الباردة، شقّت السماء أصوات الطائرات الحربية، كزمجرة وحشٍ يدوّي من فوق،
صوتها كان يقترب شيئًا فشيئًا…
ثم دوّى الانفجار الأول:
“بووووم!”
اهتزّت النوافذ، وتشققت الجدران، وارتجف قلب الأم في صدرها.
في الزاوية، كان أخوه الصغير يتلوّى تحت الغطاء، وجهه محموم، وشفاهه ترتجف كأنّها تهمس بالرجاء.
الدواء مفقود. الصيدليات مغلقة. الطرقات مهجورة.
قال نبراس لأمه بصوتٍ مكسور لكنه حاسم:
“سأذهب… سأجلب الدواء. اصبري.”
قالها واختفى في عتمةٍ تتخللها أضواء الانفجارات
كل ضوء برتقالي في الأفق كان يبتلع احتمالات العودة.
خرج ولم يعُد.
مرت الليلة، فجرٌ بعد فجر، وقلب الأم على الباب…
لكن الطرقات نسيت خطاه، والريح لم تعد تحمل صوته.
في البداية، قالت أمّه إنّه تأخّر.
ثم قالت: ربما احتُجز، ربما ضلّ الطريق، ربما هرب إلى مكان آمن.
ثم بدأت تسأل في المشافي، في السجون، في المعسكرات.
سافرت إلى مدينة تلو أخرى.
ثم سكتت.
خمسُ سنوات مرّت.
فيها تغيّر كل شيء.
تحوّل بيتهم إلى غرفة صغيرة بعدما دُمر جزء كبير منه، مات الجد، تسرّب الطفل الوحيدة من المدرسة، وبدأت الأم تشيخ أكثر من عمرها كلّ صباح.
ثم، ذات مساء، دُق باب المنزل المهجور من الفرح.
كان الصوت مُتقطّعًا، غريبًا، مرهقًا… قال: “أنا… نبراس.”
عاد الشاب الذي خرج بملامح صبيٍّ حالم… بوجهٍ لا يشبه الوجوه.
لم يكن فيه شيء من الضوء.
لا يتكلم كثيرًا.
لا يضحك.
لا يبكي.
جلس في زاوية البيت، لا يفتح نافذة ولا يغلق بابًا.
كانت أمّه تحاول أن تسأله… لكنه كان يشيح بوجهه إلى الجدار.
وبعد أسابيع، تفجّر البوح:
“يا أمّي… كنت أبحث عن الدواء، فأمسك بي جنود، قالوا إنّي جاسوس.
ضربوني، سجَنوني، ثم نسوني.
في السجن، رأيت رجالًا يُكسرون كالأعواد.
رأيت شابًا يغنّي لابنه في زنزانةٍ لا يسمعه فيها أحد.
رأيت من سلّم روحه لأنّه لم يعُد يعرف كيف يكون حيًا.
رأيتنا نحن… يُعاد تدويرنا كخردة، بلا أسماء، بلا أحلام، بلا ملامح.”
“كنت أمشي بين الجثث وأتساءل: من أنا؟
هل أنا هذا الجسد؟
هل أنا ذلك الفتى الذي كان يرسم برجًا في قلب صنعاء؟
أم أنّي الآن مجرّد رقم في سجلٍ منسي؟”
مرّت شهور.
بدأ نبراس يتكلّم قليلًا، يرسم أحيانًا خطوطًا متعرّجة على الورق.
ثم رسم ذات يوم رجلًا بنصف وجه، ونصف قلب، ونصف ظلّ.
قال لأمه: “هكذا عدت يا أمّي، نصف إنسان.”
لم تقتل الحرب نبراس، لكنّها مزّقته.
لم تطفئه، بل جمّدته في اللحظة التي اختفى فيها.
وما عاد بعدها يعرف كيف يكون الزمن.
نبراس لم يكن حالة فرديّة، بل وجهًا من وجوه جيلٍ بأكمله ضاع في العتمة.
جيلٍ حُرم من دفاتره ليُعطى سلاحًا، جيلٌ خُطف من ملاعب المدرسة إلى خنادق الموت، من حلم الطفولة إلى كوابيس الرجال.
الحرب ليست حدثًا، بل لعنة.
ليست معركة بين جيوش، بل معركة داخل الإنسان، تسرق منه روحه وتترك جسده يتجوّل تائهًا بين الأطلال.
الحرب تُغيّر شكل الوطن، لا حدوده.
تبني الأسوار بين القلوب، وتُغلق الأبواب بين الجيران.
فليكن السلاح آخر الكلام، لا أوّله.
ولنبنِ في الإنسان وطنًا، قبل أن نبني على الأرض دولة.
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة
هذه القصة مستوحاة من أحداث واقعية، بينما تم تغيير الأسماء وبعض التفاصيل حفاظًا على خصوصية الشخصيات.