ودّع لبنان يوم الجمعة 15 آب 2025 أحد أبرز وجوهه العلمية والثقافية، المؤرخ والمربّي الأستاذ نديم نايف حمزة، الذي رحل بعد مسيرة غنية في مجال التعليم والبحث التاريخي وإحياء التراث المحلي.
حصل الراحل على إجازة في التاريخ من جامعة بيروت العربية، ثم نال درجة الماجستير من الجامعة اللبنانية عام 1982 بمرتبة “جيد جدًا مع تنويه. وقد كرّس سنوات طويلة من حياته للبحث والكتابة التاريخية، مبرزًا خصوصًا الدور الذي لعبته بلدته عبيه في النهضة الفكرية والتربوية في جبل لبنان.
شغل الأستاذ حمزة منصب رئيس جمعية إحياء تراث عبيه، حيث عمل على إعادة الاعتبار لتاريخ البلدة، مركزًا على حقبة الأمراء التنوخيين، وعلى الدور الثقافي الذي أدّته المؤسسات التربوية والدينية فيها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
إلى جانب ذلك، أصدر عددًا من الدراسات التاريخية، أبرزها كتابه المرجعي «تاريخ الأسرة المعنية التنوخية بالوثائق» (دار ومكتبة التراث الأدبي، 2019)، الذي اعتمد على وثائق أصيلة لإضاءة تاريخ إحدى أهم الأسر الحاكمة في جبل لبنان.
كان الفقيد إضافةً إلى نشاطه الثقافي كمؤرّخ ومدرّس، احد أبرز الناشطين في حركة القوميين العرب واللجان الوطنية بوجه الاجتياح الاسرائيلي عام ١٩٨٢.
برحيله، يخسر لبنان علَماً من أعلامه الثقافية والتربوية، ورجلاً كرّس حياته للبحث في التاريخ المحلي، فترك إرثًا موثقًا سيبقى مرجعًا للأجيال المقبلة.
وفي مراسم العزاء التي أُقيمت في مسقط رأسه، بلدة عبيه – قضاء عاليه، ألقت الكاتبة والمترجمة والناشطة الأستاذة ليليان حمزة، ابنة شقيق الراحل، هذه الكلمة المؤثرة في رثائه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم نبدأ
((يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي))
صدق الله العظيم.
بقلوبٍ مؤمنة بقضاءِ الله وقدرِه، نودّعُ إلى رحمةِ الله تعالى عمّي الغالي، أستاذَنا ومعلّمَنا ومُلهِمَنا نديم حمزة.. كيف لا وقد رافقناك في مختلفِ دروبِ المعترك الإجتماعي والسّياسي.
نودّعُك اليوم بعَبرةٍ وحرقة. لقد خسرنا إرثًا ثقافيًّا، ومرجعًا تأريخيًّا، وقامةً وطنيّةً.
اليوم يومُ الوفاء لذكرى رجلٍ عاشَ كبيراً ورحلَ مهيباً. رجلٌ أحبَّ الناس، فأحبّوهُ لنخوتِه واندفاعِه وصدقِه ومبدئيّتِه ومناقبيّتِه وشفافيّتِه وثباتِه.
أحببتَ عبيه كما لم يحِبْها جيلٌ سابق وجيل تالٍ.
فكلُّ مدماكٍ في تاريخِ عبيه الحديث كانت لك بصمة فيه..
أطلقتَ المؤتمرات التاريخيّة، أهمّها كان “مؤتمر عبيه في التاريخ” عام 1999 نتج عنه كتاب تحت إشرافك بعنوان عبيه في التّاريخ. كما المؤتمرات البيئية وحملة إقفال مطمر النّاعمة.
كنتَ شلالاً من الفكرِ والإبداع. أسّست جمعية إحياء تراث عبيه، وشاركت بتأسيس رابطة أبناء الداودية، والرابطة الثقافية والإجتماعية في عبيه، وغيرها من مساحات العمل الإجتماعي.
مواقفكَ ومبادؤكَ محفورةٌ في سجلِّ الأحرار، وفخراٌ لكلِّ فردٍ من عائلتِك.. ربّيتَنا نحن وأبنائِك أمل ورجاء ونزار على الصّلاح، ولم تفرّق يوماً بين ابنةٍ وابن.
تركتَ لنا نهجًا للأجيال من بعدنا، ومؤلّفات كنت سبّاقًا في البحث عنها ونشرها: التنوخيون.. أجدادُ الموحّدين الدروز ودورُهم في جبل لبنان؛ وتاريخُ الأسرةِ المعنيّة بالوثائق؛ ومقالاتِك التاريخية الملتزمة، وأسّستَ مجلّةُ “أبناءِ الجبل” التي توسّعت لتصبحَ “أبناء الوطن”.
كنت ملاذَ الباحثِ الحائر، ورفيقَ دربِ المناضلين، وصوتَ الحق حين يصمتُ الكثيرون، ورافعَ رايةِ المبادرة في كلّ حين.
بيتُك كان مفتوحاً في الحرب والسّلم، وعند كلّ استحقاقٍ وطنيّ.
كنتَ لنا كـ “قدموس” ناشرًا للمعرفة والوعي في أجيالِنا.
كنتَ حريصًا منذ صغرِنا أن تضعَ الجريدةَ والكتابَ بين أيدينا وتقولَ لنا: “اقرؤوا وأخبروني ماذا فهِمْتُم”. فنتناقش ونغرف من معينِ ثقافتك بحورًا من العلم..
وقبل أقلِّ من عام، حين ذكّرناك بأنّك كنتَ في طليعةِ المدافعين عن القضيّةِ الفلسطينيّة والنّهجِ المقاوم وماذا حلَّ بفلسطين اليوم، اغرورَقَت عيناكَ بالدموع، لأنّك الحرّ الرّافض للظّلم والعبوديّة.
مصابُنا اليوم كبير..عزاؤنا أنَّك تركتَ بينَنا سيرةً عطرة، ومآثرَ لا تُمحى، وزرعًا لا يُقلَع.
سلامٌ لوجهِك الطيِّب الذي لم يقابلْنا يوماً إلا بابتسامة، ودموعِ الفرح التي كانت تغمرُ عينيك.
سلامٌ عليكَ في جنّاتِ النّعيم.. سلامٌ لروحِك الطّاهرة.
نعدُك يا عمّي أن نكملَ الدّرب الذي بدأناهُ معاً. إنّنا على العهد.. عهدُ كلمتِك الحرّة.. عهدُ تاريخِك النّاصع بسيفِ المعرفة والرّقيّ وأصالةِ الجذور.
أسمى آياتِ الشّكر موصولةٌ لكلِّ من واسانا.
باسمي وباسم عائلة فقيدِنا الغالي، نتقدّمُ بخالصِ الامتنان لكلِّ من شاركَنا مصابَنا الأليم، وواسانا بكلمةٍ طيّبة أو حضورِ أو دعاءٍ صادق.
نسألُ الله أن يحفظَكم وألا يريكُم مكروهًا في عزيزٍ لكم. وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
(الصّورة من الأرشيف: الأستاذ منير حمزة يمينًا والأستاذ نديم يسارًا).