مروى، اسمٌ يجلجل في القلب صدى الألم، ويترك في النفس أثراً لا يمحى. كانت فتاة سورية في بداية شبابها، حيث كانت أحلامها بريئة، وعينيها مليئتين بالأمل، إلا أن الحرب الشرسة التي اجتاحت بلادها جلبت معها الوحشية التي لم تعرفها. في عالم كانت فيه البراءة ضحية للحقد، تحولت مروى إلى رمز من رموز التضحيات القسرية في زمن أصبح فيه كل شيء قابلًا للانتهاك.
مروى كانت تحمل في قلبها كل معاني الحياة، وكل تفاصيل الطفولة التي تُجمِّل الأحلام. لكنها كانت تجهل أن حياتها لن تكون كحياة معظم الفتيات. لم يكن لها أفق سعادةٍ بعيدٍ عن شظايا القصف، ولا عن حرائق الحرب التي أحرقت كل شيء جميل في وطنها. لم تكن تعرف أن مصيرها سيتغير في لحظة؛ حين قرر والدها، في غمرة فوضى الحرب، أن يبيعها كما لو أنها لا تتعدى كونها سلعة رخيصة في سوقٍ لا يعترف بالقيم الإنسانية.
في تلك اللحظات العميقة من الألم، لم يكن لدى مروى سوى عيون والدها، الذي كان يفترض أن يكون حاميها. في لحظة هشة من التاريخ، لم تستطع أن تدرك أن ذلك الوالد نفسه هو من سيغدر بها. غُرست في قلبها أفكارٌ قاسية، زُرع فيها مصطلح غريب اسمه “جهاد النكاح”، وصار جسدها وسيلة لأغراض لا علاقة لها بها، ولا بمفاهيمها البريئة عن الحب والاحترام.
ما الذي يمكن أن يقال عن أبٍ، استبدل مشاعر الأبوة بمصالح دنيئة، ليتاجر بحياة فلذة كبده؟ ماذا يمكن أن يُقال عن والد جعل من ابنته ضحية لجحيم لا يعرف سوى الانكسار؟ حين دخل على مروى أول “جهاد” قادم، وكانت هي مجرد طفلة في وجه الرياح العاتية، غابت عن الوعي. كان الجسد يصرخ، لكن الروح كانت أضعف من أن تقاوم. وعندما فتحت عينيها، كانت الوجوه قد تغيرت، وكان جسدها قد استباحته يد الفناء، وحُكم عليها أن تصبح جزءاً من حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.
سألت نفسها بعد كل تلك المآسي، ماذا يعني أن تُباع الطفلة في سوق الموت؟ ما معنى أن يضحي بها والدها، ذلك الأب الذي كان يجب أن يكون حاميها، الذي كان ينبغي له أن يكون درعًا يحميها من شرور العالم؟! كان يصف لها هذا الجحيم على أنه “شرف”، وكان يروي لها أنه الطريق إلى الجنة، بينما كان هو بنفسه يُذبح كل معاني الأبوة في قلب ابنته.
مرّت الأيام ثقيلة، تحاول مروى أن تجد مكانًا في العالم لهذه المأساة، لتفهمها، ولكن كيف يمكن لروح أن تفهم شيئًا كهذا؟ كيف يمكن لجسد أن يتحمل ما لا تحتمله الجبال؟ وقد مرّت أكثر من عشرين يومًا من النزيف المستمر، تائهاً بين الأمل والموت. وعندما دخل عليها آخر، كان الرجل في نظرها غريبًا، لا يمت للرحمة بصلة، فكيف إذا كان هذا الرجل من دمها؟!
“ألم يكن والدك أفضل مني؟” كانت تلك هي الإجابة التي ألقتها عليه. وكانت مروى قد اكتشفت في تلك اللحظة أن الوجع لم يكن قاصرًا عليها فقط، بل امتد ليطال من كانت تعتقد أنه حاميها. وكان السؤال يعصف في قلبها: “أحقًا كان والدها قد ضحى بها على مذبح حربٍ مشوّهة؟”
بين جدرانٍ ضاقت بالحزن، وقلبٍ مليء بالأسئلة، كانت مروى تائهة، تبحث عن إجابة، وعن معنى يمكنها أن تعيش به. لكنها أدركت أن ما حدث لها ليس فقط جريمة في حق جسدها، بل هو جريمة في حق إنسانيتها وحقها في أن تكون كما هي، دون أن تُستباح أو تُهان.
مروى ليست مجرد اسم في سجلات الحرب، وليست فقط ضحية لجريمة فكرية أُجبرت عليها. مروى هي صوتٌ لكل امرأة، وكل فتاة ضاعت بين حروب لا تعترف بحقوقها. هي صوتٌ يكسر الصمت، ويرتفع فوق كل الحواجز التي تصد العالم عن الاستماع إلى معاناتها.
نحن بحاجة إلى أن نرفع مروى من هذا السواد الذي أظلم حياتها. نحن بحاجة إلى أن نؤمن بأن كل فتاة في هذا العالم تستحق أن تعيش بسلام، بعيدًا عن أي شكل من أشكال الاستغلال أو العنف. بحاجة إلى أن نكون جميعًا صوتًا للعدالة، ونقف في وجه هذا الظلام الذي طالما حاول طمس الإنسانية.