منذ الثورة الإسلامية عام 1979، خاض النظام الإيراني عواصف سياسية وأمنية واقتصادية كفيلة بإسقاط أي نظام حكم تقليدي. ومع ذلك، بقي صامدًا. من الحرب العراقية الإيرانية، إلى العقوبات الدولية، إلى احتجاجات 2009 و2022، ثم تصعيدات 2024–2025 العسكرية مع إسرائيل، أثبتت المؤسسة الحاكمة في إيران قدرتها على امتصاص الصدمات وإعادة إنتاج أدوات بقائها.
إذن كيف استطاع النظام الإيراني، بقيادة ولاية الفقيه، تفكيك كل محاولة لإسقاطه، وكيف نجح في بناء هندسة أمنية اقتصادية دعّمت شرعيته بالقوة:
1. البنية الأمنية – المركزية العسكرية للحرس الثوري
يشكّل الحرس الثوري الإيراني (IRGC) أحد الركائز الأساسية في منظومة الدولة. فهو:
- يشارك في إدارة القطاعات الاقتصادية الرئيسية مثل الطاقة والبنية التحتية والاتصالات.
- يمتلك جهازًا استخباراتيًا موازٍ لجهاز الاستخبارات الوطني.
- يدير علاقات عابرة للحدود من خلال دعم جماعات مسلحة في المنطقة.
تؤمن هذه الهيكلية للنظام قاعدة أمنية واقتصادية متماسكة، وتُقيّد بشكل فعّال احتمالات الانشقاق أو الانقلاب.
2. منظومة السيطرة المجتمعية والرقابة
يستند النظام إلى شبكة مجتمعية تساهم في رصد النشاطات المدنية والسياسية، أبرزها:
- “الباسيج”، وهي قوات تعبئة شعبية تخضع لإشراف الحرس الثوري.
- أدوات المراقبة الرقمية، بما يشمل التحكم بالإنترنت، مراقبة تطبيقات التراسل، وتعطيل الخدمات أثناء الاضطرابات.
- توظيف منظومة القضاء لملاحقة النشطاء والمعارضين ضمن آليات قانونية خاصة (مثل المحاكم الثورية).
هذه الشبكة تحدّ من قدرة المعارضة على التنظيم أو التعبئة الشعبية الواسعة.
3. إدارة الأزمات: التناوب بين الردع والاحتواء
يعتمد النظام على نهج متعدد المستويات في إدارة الأزمات:
- يستخدم الردع السريع في المراحل الأولى من التظاهرات (اعتقالات، تقييد إعلامي، تدخل أمني مباشر).
- يتبع ذلك بإجراءات تهدئة انتقائية مثل الإفراج المحدود عن معتقلين، أو تقديم وعود إصلاحية مؤقتة.
يساهم هذا التوازن في امتصاص موجات الغضب دون السماح بتراكمها في كتلة احتجاجية طويلة الأمد.
4. الاقتصاد غير الرسمي ومرونة التكيّف مع العقوبات
نجح النظام في إنشاء آليات اقتصادية بديلة لتجاوز العقوبات، من خلال:
- تصدير النفط عبر شبكات غير رسمية باستخدام “ناقلات شبح”.
- تفعيل التبادلات النقدية مع دول خارج النظام المصرفي الغربي (مثل الصين وروسيا).
- تمكين شركات شبه حكومية بإدارة مشاريع حيوية على حساب القطاع الخاص المستقل.
أدى هذا إلى إبقاء الحد الأدنى من الاستقرار المالي، رغم التدهور في مؤشرات الاقتصاد الكلي.
5. استثمار التهديد الخارجي في تعزيز التماسك الداخلي
يعمد النظام إلى توظيف التصعيدات الإقليمية (مثل الضربات الإسرائيلية أو الضغوط الأمريكية) كأداة سياسية لتوحيد الجبهة الداخلية.
تُقدَّم هذه الأحداث في الخطاب الرسمي باعتبارها دليلًا على “استهداف سيادي”، مما يُقلّص المساحة المتاحة للنقد الداخلي أو المطالبة بالتغيير خلال فترات التوتر الخارجي.
6. مركزية السلطة الدينية والقانون الدستوري
النظام السياسي الإيراني يقوم على مبدأ ولاية الفقيه، الذي يمنح المرشد الأعلى صلاحيات مطلقة تتجاوز المؤسسات المنتخبة.
هذه الصيغة تضمن ثبات الهيكلية السياسية بغضّ النظر عن التغيّرات في البرلمان أو رئاسة الجمهورية، وتُقيّد بشكل كبير إمكانية نشوء بديل مؤسسي داخلي.
7. محدودية المعارضة المؤسسية
رغم تكرار موجات الاحتجاج، لا تزال المعارضة داخل إيران تواجه تحديات بنيوية، منها:
- غياب قيادة موحّدة أو مشروع سياسي بديل متفق عليه.
- صعوبة التموضع في الحيّز القانوني بسبب القيود المفروضة على الأحزاب والتنظيمات.
- اختراق العديد من المبادرات من قبل الأجهزة الأمنية أو احتواؤها مبكرًا.
يؤدي هذا إلى تقليص فعاليتها في إحداث تغيير سياسي منظم.
يستند النظام الإيراني في بقائه إلى تماسك أجهزته الأمنية، سيطرته على الموارد الاقتصادية الحيوية، وإدارة متدرجة للأزمات الداخلية والخارجية.
لم تظهر حتى الآن مؤشرات داخلية أو خارجية كافية لإحداث تغيير هيكلي في طبيعة النظام، ما لم تحدث تحولات جوهرية في موقع المرشد الأعلى أو في علاقة النظام بالقوى الدولية.