يواجه الأطفال الذين عانوا من ويلات الحرب والحياة في المخيمات تحديات نفسية معقدة، تنجم عن تجارب العنف والنزوح والحرمان. هذه التحديات تشمل اضطرابات متعددة تتطلب عناية خاصة من المجتمع المحلي والدولي. في هذه المقالة سنستعرض أبرز الاضطرابات النفسية المحتملة، أسبابها، ونقترح حلولاً مستندة إلى الأدبيات العلمية والتجارب التاريخية.
1- اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)
يُعرّف بأنه حالة نفسية تنشأ نتيجة التعرض المتكرر لتجارب عنف وأحداث مؤلمة. الأطفال العائدون من مخيمات النزوح يُعدّون من الفئات الأكثر عرضة لهذا الاضطراب بسبب المشاهد العنيفة التي عاشوها أو شهدوها، ولا سيما أن جيلًا كاملاً وُلد ونشأ في تلك البيئات القاسية.
تشمل الأعراض: الكوابيس المتكررة، الذكريات المؤلمة، القلق المفرط، مما يؤثر سلبًا على النمو النفسي والاجتماعي للطفل. تاريخيًا، عانى الجنود العائدون من الحرب العالمية الأولى من أعراض مشابهة عُرفت آنذاك بـ “صدمة القذائف”. وقد وثّق الشاعر البريطاني سيغفريد ساسون هذه التجارب في كتابه Memories of an Infantry Officer.
في السياق العربي، وصفت آذار نفيسي في كتابها أن تقرأ لوليتا في طهران ما خلّفته الحرب العراقية الإيرانية من خوف دائم واضطراب نفسي على المدنيين نتيجة القصف المستمر.
2- القلق والاكتئاب
النزوح القسري والعيش في بيئات غير مؤهلة مثل المخيمات يزيدان من معدلات القلق والاكتئاب لدى الأطفال (Fanzel, 2012).
يتجلى القلق والاكتئاب في مشاعر الحزن المستمر، فقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية، التوتر، واضطراب المزاج.
خلال الحرب العالمية الثانية، انتشرت هذه الحالات بين الجنود والمدنيين، وقد صور جوزيف هيلر في روايته Catch 22 القلق المستمر للطيارين العسكريين، بينما تناولت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي في ذاكرة الجسد أثر الحرب على الفرد من خلال شخصية خالد التي عانت فقدان الأحبة والاكتئاب العميق.
كما أوضح الطبيب النفسي بيسيل فان دير كولك في كتابه The Body Keeps the Score أن القلق والاكتئاب ردود طبيعية للأحداث الصادمة، مؤكداً على دور العلاج النفسي والدعم الاجتماعي في التعافي.
3- صعوبات التكيّف الاجتماعي
الأطفال الذين نشأوا في بيئات الحرب غالبًا ما يجدون صعوبة في الاندماج مع المجتمعات الجديدة، خاصة إذا كانوا يحملون أفكارًا أو قيمًا مغروسة قد لا تنسجم مع القيم السائدة. هذه الصعوبات قد تؤثر على أدائهم الأكاديمي والاجتماعي (Miller, 2010)، وتظهر في شكل عزلة، فقدان الثقة بالآخرين، وصعوبة في بناء العلاقات.
أدبيًا، صوّر إريش ماريا ريمارك في روايته All Quiet on the Western Front عزلة الجنود الألمان العائدين من الحرب، بينما أبرز علاء الأسواني في عمارة يعقوبيان تأثير القمع والعنف السياسي على التماسك الاجتماعي. ومن جهة أخرى، قدّم فيكتور فرانكل في كتابه Man’s Search for Meaning مثالاً على كيفية تجاوز الصدمة عبر البحث عن المعنى وإعادة بناء الروابط الإنسانية.
الحلول المقترحة للاضطرابات النفسية لدى الأطفال
1- العلاج النفسي المتخصص
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT):
يعدّ من أكثر الأساليب فعالية في معالجة اضطراب ما بعد الصدمة، حيث يساعد الطفل على تعديل الأفكار السلبية والتحكم في الاستجابات العاطفية. يشير فان دير كولك إلى أن هذا العلاج يعيد هيكلة الوعي ويتيح للمصابين فهم تجاربهم بشكل صحي.بالنسبة للأطفال العائدين من المخيمات، يُعدّ هذا النهج أساسيًا لمساعدتهم على تفسير بيئتهم الجديدة والتعامل مع صدماتهم السابقة.
- العلاج النفسي الموجّه نحو الجسد:
يركّز على العلاقة بين العقل والجسم من خلال تقنيات الحركة والتعرض الحسي، ويساعد في تحرير الطاقة المكبوتة نتيجة التجارب الصادمة. يتيح هذا العلاج فهمًا أعمق لمشاعر الطفل المكبوتة، ويمنح المعالج خريطة أوضح لبناء عالم جديد أكثر أمانًا له.
2- الدعم الاجتماعي والمجتمعي
- مجموعات الدعم:
توفر بيئة آمنة لتبادل التجارب ومشاركة المشاعر، مما يخفف العزلة ويعزز الانتماء. التجارب التاريخية، مثل مجموعات الدعم في بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، أثبتت فعاليتها في تعزيز التكيف والتعافي.
3- إعادة التأهيل المهني والتعليمي
- برامج التدريب والتأهيل:
تمنح الأطفال واليافعين مهارات جديدة تساعدهم على إعادة بناء حياتهم، مثلما حدث مع برامج ما بعد حرب فيتنام. - دعم الاندماج المجتمعي:
يشمل خدمات التوجيه المهني، المساعدة التعليمية، والدعم المالي، بما يعزز استقلالية الأفراد ويساعدهم على إعادة الاندماج بشكل صحي وإيجابي.
إن مواجهة الاضطرابات النفسية لدى الأطفال العائدين من الحروب والمخيمات تستدعي تبني نهج شامل يجمع بين:
- العلاج النفسي المتخصص،
- الدعم الاجتماعي والمجتمعي،
- والتأهيل المهني والتعليمي.
لقد أثبت التاريخ أن التعاون المجتمعي والاهتمام الأكاديمي والعلمي يشكّلان حجر الأساس في التخفيف من آثار الصدمات. ومن هنا، تقع على عاتق مؤسسات المجتمع المدني مسؤولية تبنّي هذه المهمة الجريئة لضمان عودة الأطفال إلى حياة طبيعية وصحية، تليق بطفولتهم وبحقهم في الحب والأمان.