بعدما أصبحت الاعتداءات الإسرائيلية روتينًا شبه يومي على الجنوب، بقيت الدولة وحدها من يتعايش مع ذلك، متغافلة عن أكثر من 4,651 خرقًا إسرائيليًا و221 شهيدًا منذ اتفاقية وقف إطلاق النار التي كان من المفترض أن تحدّ من العدوان. بل لم يكتفِ العدو، بل شَيَّد نقطة سابعة جديدة في كفركلا، ونفّذ توغلات ليلية على القرى الحدودية، وحصَّن نفسه في قواعد عدة جنوبًا لضمان سلامته، فيما تعمل الحكومة على سحب سلاح المقاومة والخضوع للإملاءات الخارجية من دون أي ضمانات أميركية.
وفي خضم هذه الاعتداءات، وجد الجنود الإسرائيليون وقتًا للسخرية عبر نشر صورة على مواقع التواصل لأحد جنود الاحتلال تظهر فيها دمية على شكل قرد مُسمَّر على صليب خشبي في جنوب لبنان، ما يشكّل إهانة واستهزاء معلنًا بالديانة المسيحية. قابلها البطريرك الراعي بتصريحات شدّد فيها على نزع سلاح المقاومة لانسحاب القوات الإسرائيلية، متهمًا الحزب بتجريد المقاومة من معناها الحقيقي.
فهل تمثل هذه المواقف فعلًا المسيحيين اللبنانيين في ظل الإهانات العلنية والعربدة المستمرة على الجنوب؟
بهذا عبّرت الصحافية مايا خوري قائلة:
“إن ما نشهده يوميًا من تفجيرات لقرى الجنوب واستهداف مدنيين هو بداية محاولة لتطبيق حلم إسرائيل الذي أعلنه نتنياهو جهارًا: إسرائيل الكبرى”.
هذه التحركات الإسرائيلية هي دليل قاطع على أن إسرائيل لا تحترم القرارات الدولية ولا الاتفاقيات، ولا تحترم الدولة اللبنانية ككل، وهي تراهن اليوم على الانقسام الداخلي في لبنان، وتراهن على خطاب التطبيع الذي يطل من بعض المنابر اللبنانية.
كل تحرك إسرائيلي اليوم يحمل رسالة ضغط سياسي قبل أن يكون عملًا عسكريًا، لكن أي خطوة إسرائيلية لفرض واقع جديد على الأرض ستُقابَل بردّ يوازيها وأكثر.
النقطة السابعة: تفريط بالسيادة وتشجيع للعدوّ
كما أضافت أنّ تغاضي الحكومة عن قيام العدو الصهيوني بتشييد نقطة سابعة في جنوب لبنان ليس مجرد خطأ عابر، بل هو فعل يُرقى إلى مستوى التفريط بالسيادة والخيانة لدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعًا عن هذه الأرض. ما يجري ليس بناء نقطة مراقبة، بل محاولة واضحة لفرض أمر واقع جديد على الحدود، خطوة بعد خطوة، في مسعى لجعل الخط الأزرق سيفًا مسلطًا على رقابنا.
وبالتالي فإنّ إسرائيل تراهن على ضعف الدولة وانقسام الداخل، وكل يوم يمرّ بصمت رسمي هو هدية مجانية للعدو. فالسكوت عن النقاط الخمس كان تشجيعًا للوصول إلى بناء النقطة السابعة، وربما غدًا الثامنة والتاسعة والعاشرة!
كما شددت الصحافية مايا خوري على أن التجارب أثبتت منذ عام 2000 وحتى اليوم أنّ العدو لا يردعه سوى القوة، وأنّ لغة المسايرة لا تجلب سوى المزيد من التعديات.
الإهانات للمسيحيين وصمت الوجهاء
لتناقض مايا تصريحات البطريرك بشكل مباشر، معلّقة:
“ليعلم الجميع أنّ الجنوب ليس أرضًا سائبة، وأنّ التهاون في هذه المرحلة هو تواطؤ مرفوض. فلتتحمّل الحكومة مسؤولياتها. إنّ حدود لبنان تُرسَم بالدماء لا بالحبر، والسيادة لا تُصان بالبيانات بل بالمواقف والردع.
وأنا كإنسانة وكمواطنة لبنانية قبل أن أكون مسيحية، شعرت بالغضب العارم والقرف من مشهد السعدان المصلوب الذي يكشف حقيقة جيش الاحتلال وثقافة الكراهية التي تحكمه. ويمكننا اعتبار أن هذا الفعل ليس مجرد فعل فردي، بل رسالة مقصودة لإهانة الرموز الدينية والمسيحية تحديدًا، في محاولة لتدنيس القيم التي نؤمن بها وإثارة الفتنة بين أبناء الوطن. وهو دليل آخر على أنّ هذا العدو يحمل مشروع إذلال لكل من يختلف معه، مسيحيًا كان أم مسلمًا.
ولم يغضبني بقدر ما أغضبني صمت من يجب ألّا يصمتوا. شعرت بالقرف والغضب والعار أن هناك بيننا من يصرّ على تبييض صورته والدعوة إلى السلام معه، حتى وهو يجلد الصليب علنًا أمام العالم.
ومن هنا أقول: يا صاحب الغبطة، كيف تدعو إلى السلام مع كيان يستهزئ برمز المسيحية الأقدس؟ كيف تبرّر الجلوس إلى طاولة التفاوض مع قتلة الأنبياء والأنقياء، فيما هم يطعنون إيماننا في الصميم؟ أليس الصليب بالنسبة إلينا خطًا أحمر؟ أم أن سلامك المزعوم أهم من كرامة إيماننا ودماء شهدائنا؟
والمفارقة أنّك في لحظة كان يجب أن ترفع الصوت دفاعًا عن المسيح المصلوب، اخترت أن ترفع شعار السلام المزيّف”.
المقاومة دفاع عن الصليب، والسلاح خطّ أحمر
أكدت خوري بقولها:
“بصوت عالٍ، نحن المسيحيين الأحرار، نرى في المقاومة دفاعًا عن الصليب قبل أن تكون دفاعًا عن الأرض. ومن لا يرى ذلك، فهو إمّا أعمى البصيرة أو متواطئ مع من يريدون سحق هويتنا. فلتسكت كل الأصوات التي تبرّر الاحتلال باسم الحوار، لأنّ من يُهان صليبه اليوم، لن يبقى له وطن غدًا”.
وختمت قائلة إن الحديث عن تسليم سلاح المقاومة ليس نقاشًا بريئًا ولا طرحًا إصلاحيًا، بل مشروع خيانة وطنية. ومن يرفع شعار “السلاح بيد الدولة” يعلم أنّ الدولة مشلولة، وجيشها مقيَّد باتفاقات تمنعه من الردع والتسلح، ما يجعل لبنان أعزل أمام عدو يملك أعتى ترسانة في المنطقة.
نزع السلاح يعني تسليم الجنوب، وسقوط بيروت غدًا، ولبنان كله بعد غدٍ تحت أقدام الصهاينة. وكل صوت يطالب به قبل التحرير وحماية السيادة إنما يخدم المشروع الإسرائيلي، بوعي أو بعمالة. فالاقتراب من هذا السلاح قبل ضمان الحماية الوطنية يفتح الباب لحرب أهلية لا يربح فيها سوى إسرائيل. إن نزع السلاح ليس حوارًا، بل إعلان حرب على المقاومة وعلى لبنان.
ونهايةً، تبقى فلسطين أرض المسيح، ومن هتكها وظلم أبناءها ودمّر كنائسها هو العدو الصهيوني الذي لم يلتزم يومًا باتفاقات دولية ولا عقائد دينية أو حقوق إنسانية، بل لا يعرف سوى لغة الإجرام والتسلّط. لذلك فالمعني بفلسطين ليس فقط من يملك مسجدًا في القدس، بل أيضًا من يرى في كل شارع في أورشليم جزءًا من قضيته. ومعاداة هذا الكيان واجب أخلاقي قبل أن يكون وطنيًا أو عقائديًا.
ومن هنا، فإن كل الأصوات المتماهية مع العدو والتي تُرفع باسم “المسيحيين” ليست سوى صدى ضائع لا يعبّر إلا عن فراغ.