في عالمٍ سريع التحول، حيث تزداد الضغوط النفسية والعصبية على الأفراد، يسعى كثيرون لإيجاد سُبل غير تقليدية للتخفيف من هذه الضغوط. من هنا، ظهرت فكرة العلاج بالفن، أو ما يمكن تسميته “العلاج بالألوان”، وهو ليس مجرد فكرة حديثة، بل هو عودة إلى جذور الإنسان التي طالما تفاعل فيها مع الطبيعة والفن للتعبير عن مشاعره وأفكاره.
الفن، بجميع أشكاله، يحمل في طياته قوة شفائية لا تقاوم، قد تكون أكثر تأثيراً من العلاج الدوائي في بعض الأحيان. كما يلاحظ حسين عباس غزالة، مصمم الجرافيك والديكور ، فإن “الفن ليس فقط إبداعاً، بل هو وسيلة للتواصل مع الذات والعالم من حولنا. اللون، على سبيل المثال، لديه القدرة على إعادة تشكيل واقعنا الداخلي، كما يُستخدم في التصميم لخلق بيئة تدعم الراحة النفسية”.
العلاج بالفن ليس فكرة جديدة؛ إذ يمكن تتبع جذوره إلى عصور ما قبل التاريخ. فحتى في الرسومات الأولى على جدران الكهوف، كان الإنسان يحاول التعبير عن مشاعره باستخدام الألوان. لكن العلاج بالفن، كما نعرفه اليوم، شهد تطوراً ملحوظاً في القرن العشرين. في عام 1942، كان أول من استخدم الفن كعلاج نفسي هو البريطاني أدريان هيل، الذي استعان بالرسم لمساعدة مرضى السل على تجاوز الوحدة والعزلة أثناء فترات العلاج في المصحات.

غزالة، الذي يعمل في مجال التصميم البصري منذ سنوات طويلة، يضيف قائلاً: “في عالم التصميم، يعرف المصممون جيداً كيف يمكن أن يؤثر كل لون على المشاعر. على سبيل المثال، اللون الأزرق يبعث على الشعور بالهدوء، بينما الأحمر يعزز الطاقة والنشاط. وفي العلاج بالفن، تستخدم هذه الألوان ليس فقط للزخرفة، بل كأداة لإعادة بناء التوازن النفسي”.
تستمد جلسات العلاج بالفن قوتها من تنوع الأنشطة التي تشمل الرسم، النحت، والموسيقى، حيث تفتح أمام الفرد بوابة للتعبير عن ذاته بطرق لا تعرف الحدود ولا القيود. هذه الجلسات تمنح الإنسان فرصة نادرة للغوص في أعماق مشاعره وأفكاره المكبوتة، محققةً تواصلاً صادقًا بين روحه وفنه. تُستخدم الألوان هنا ليس فقط كوسيلة للإبداع، بل كأداة قادرة على تحرير ما عجز عن الخروج من أعماق النفس، لتكون لحظة مواجهة صادقة مع الذات، تساهم في شفاء الروح وتجديد الأمل.
في ضوء الظروف القاسية التي يعيشها كثيرون في مناطق الصراعات والحروب مثل لبنان، فلسطين، اليمن… يؤكد غزالة على أن “الفن لا يتوقف عند حد تقديم التسلية أو الترفيه، بل هو وسيلة قوية لتحفيز الشفاء النفسي. في حالات مثل الحروب والتهجير، حيث يكون الناس محاطين بالدمار، يصبح الفن علاجاً يفتح لهم أبواب الأمل. يمكن للألوان أن تخفف من تأثيرات القلق والخوف، وتساعد في بناء مستقبل أفضل”.

أحد الأمثلة على ذلك هو تأثير العلاج بالفن في مجال الصدمات النفسية. العديد من الأبحاث أكدت أن الأطفال الذين يعيشون في مناطق الحرب أو الكوارث الطبيعية يمكن أن يستفيدوا بشكل كبير من التعبير الفني. فالأطفال الذين يواجهون الخوف والقلق يستطيعون من خلال الرسم أو النحت أن يعبروا عن مشاعرهم التي لا يستطيعون قولها بالكلمات. وهذا يساعد في تخفيف آثار الصدمة وتوجيه طاقتهم في مجالات إيجابية.
العلاج بالفن هو دعوة للعودة إلى الذات، للبحث عن الألوان التي تنقلنا إلى عالم من الطمأنينة والراحة النفسية. إنه ليس مجرد مجموعة من الألوان المرسومة على الورق، بل هو عملية داخلية عميقة تدعو الإنسان لاكتشاف نفسه من جديد. كما يوضح حسين غزالة: “الفن يجعلنا نرى أنفسنا بشكل مختلف، ويُساعد في تخفيف حدة الألم الداخلي، سواء كان جسدياً أو نفسياً. فهو علاج ذو تأثير دائم، لا ينتهي بمجرد الانتهاء من الرسم”.
ختاماً، يمكن القول إن العلاج بالفن ليس مجرد أسلوب حديث أو موضة عابرة، بل هو جزء من تراث الإنسان، جزء من حاجته الفطرية للتعبير عن نفسه والتواصل مع عالمه الداخلي. اليوم، ومع تطور العلم والفن، أصبح بإمكاننا استخدام هذا الفن بشكل احترافي لمعالجة مشاعرنا، والتغلب على التحديات التي نواجهها في حياتنا اليومية.
فريق التحرير