في إحدى المؤسسات الحكومية، تجلس نزيهة خلف مكتبها الخشبي العتيق، ترتدي نظارة سميكة وتحدّق في أوراقها بنظرة صارمة. اسمها يوحي بالنزاهة والاستقامة، لكنّ الحقيقة تختلف تماماً عن المظهر البريء الذي يوحي به الاسم.فقد عُرفت نزيهة بين المراجعين بكونها مثالاً صارخاً للصلابة المتقنة واللؤم المبطّن، تُعقّد المعاملات وتنسج حولها متاهات لا تنتهي، إلا لمن يعرف “الطريق السري”.
عندما تدخل إلى مكتبها، تستقبلك بابتسامة خالية من الدفء، أشبه بابتسامة موظف مبرمج على الحزم لا الرحمة. تبدأ حديثها بأسئلة متشعبة، وكأنها تختبر صبرك، قبل أن تُلقي عليك عبارات قاطعة: “ملفك ناقص… عد بعد أسبوع”. وإذا كنت محظوظاً، ستفهم سريعاً أن “الحل السحري” يكمن في رشوة مقنّعة تُقدّم بذكاء، لتحرّك عجلة المعاملة المتوقفة.
رغم أن اسمها يحمل أسمى معاني النزاهة، فإن نزيهة لا تمانع في تقاضي الرشاوى مقابل تسريع المعاملات، وتبتكر المبررات لتبرئة نفسها. في نظرها، الأمر لا يعدو كونه “تعويضاً” عن سنوات الخدمة الطويلة والجهود المضنية التي بذلتها. فلا يمرّ يوم دون أن تستعرض “تضحياتها” في المؤسسة، وكيف أنها تستحق أكثر مما تتلقاه من راتب ضئيل.
تتحدث نزيهة بلهجة صارمة، لا تترك مجالاً للنقاش. كل شيء لديها قابل للتأجيل أو التعطيل، إلا إذا كنت مستعداً لـ”فهم قواعد اللعبة”. هي سيدة القرار، تعرف كيف تستخدم سلطتها لتجعل من أبسط معاملة قضية معقدة، وتبرع في اختلاق الأعذار لرفض أي طلب، ما لم تتوافر شروط غير مكتوبة يدركها الجميع.
رغم حضورها القوي وفرضها الهيبة، هناك فراغ إنساني واضح في تعاملها. قليلون من يذكرون لحظة تعاطف أو موقفاً إنسانياً قد صدر منها. على العكس، تترك وراءها سلسلة من الحكايات عن مواطنين خرجوا من مكتبها مثقلين بالخيبة والتذمر. في ممرات المؤسسة، يروي المواطنون قصصهم مع نزيهة، وكأنها بطلة رواية حزينة تتكرر فصولها كل يوم. أحدهم يقول إنه اضطر لدفع مبلغ غير رسمي “ليُنهي معاناته معها”، بينما آخر يتذكر كيف أضاعت أوراقه عمداً، فقط لأنه لم يستجب “لإشاراتها الصامتة”.ورغم كل ذلك، تُبقي نزيهة وجهها البارد في مواجهة الانتقادات، وتتمسك بعباراتها المعتادة: “أنا أطبق القانون”. لكنها في الواقع تطبّق قانوناً آخر، قانون الصفقات الخفية والمساومات الناعمة.
نهاية مشهد متكرر
في النهاية، تبقى نزيهة رمزاً لواقع مؤلم في بعض مؤسسات الدولة، حيث تتحول النزاهة من مبدأ إلى اسم بلا معنى. وبينما ينتظر المواطن تغييرات جذرية في المنظومة، تظل نزيهة وأمثالها جزءاً من مشهد مألوف… مشهد يجعل الطريق إلى الحقوق محفوفاً بالعراقيل، ما لم يجد المواطن طريقة لكسب ودّ “الحارسة الصارمة” لبوابة الدولة.
لكن السؤال الذي يظل معلقاً: هل ستبقى نزيهة كما هي؟ أم أن التغيير سيأتي يوماً، ليكشف أن النزاهة الحقيقية أكبر من مجرد اسم على بطاقة تعريف؟
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة