أمس في ليلة شتوية عاصفة، جاء صوت الرياح وكأنه أنين البلاد التي طال انتظارها للمطر. حلت العاصفة “أسيل” ضيفًا لا يستأذن أحدًا، حاملةً في جعبتها خيرًا ووجعًا، فغمرت الأرض بالماء وقلوب الناس بالقلق. أمطار غزيرة اجتاحت لبنان، حاجة ملحّة بعد أشهر من الشح، لكنها لم تأتِ دون أن تترك بصمتها العنيفة على الوجوه المنهكة والأرصفة المتعبة.
غيث طال انتظاره
لبنان، الذي عانى هذا العام من نقص واضح في المياه، كان في أمسّ الحاجة إلى هذه الأمطار التي أعادت الحياة إلى الينابيع الجافة، وملأت السدود التي كادت تصدأ من الفراغ. المزارعون الذين كانوا يراقبون سماءً خذلتهم طويلاً، استبشروا أخيرًا بعودة الخير. فالأرض المتعطشة ارتوت، والبساتين استعادت ألوانها، بعد أن كاد الجفاف يمحوها من الذاكرة.
فرحة ممزوجة بالحذر
لكن “أسيل” لم تكن فقط أمطارًا خجولة تهطل بهدوء. جاءت محملة برياح هادرة، وكأنها تختبر قدرة لبنان على الصمود. اقتلعت الأشجار، وأغرقت الشوارع، تاركة وراءها مشهدًا متناقضًا بين فرحة المطر وقلق الأضرار. في بيروت، تحولت بعض الأحياء إلى بحيرات صغيرة، بينما وقف الناس على الأرصفة ينتظرون انحسار المياه. في القرى الجبلية، كان الثلج ضيفًا أبيض يغطي المرتفعات، يزرع الجمال ولكنه يعقد حركة المرور.
الأرض تعرف حاجتها… لكنها لا تصبر كثيرًا
الأمطار كانت ضرورية، هذا لا شك فيه، لكنها كشفت مرة أخرى هشاشة البنية التحتية. مجاري المياه لم تكن جاهزة لاستقبال هذا الكم من الأمطار، فكأنها فوجئت، كما فوجئنا جميعًا، بحجم العاصفة. في مناطق كثيرة، غرقت الطرقات وتحولت إلى ممرات صعبة، فيما تجندت فرق الدفاع المدني لفتح الطرق وإزالة العوائق.
ما بين الشتاء والدعاء
رغم قسوة المشهد، كان للبنانيين طريقة أخرى في التعامل مع “أسيل”. فهم يعرفون جيدًا أن الشتاء، مهما كان قاسيًا، هو وعدٌ بحياة أفضل. يقول أحد المزارعين في البقاع: “هذه الأمطار هي هدية، حتى لو أوجعتنا قليلاً. نحن نحتاجها أكثر من أي وقت مضى.”
“أسيل” تذكير بأن لبنان لا يحتاج فقط إلى الأمطار لتروي عطشه، بل يحتاج إلى بنية تحتية صلبة، وخطط واضحة لمواجهة غضب الطبيعة. ومع ذلك، سيظل اللبنانيون يرفعون عيونهم إلى السماء، يطلبون الغيث لا الغرق، والأمل لا الخوف، لأن في كل قطرة مطر حكاية حياة تنتظر أن تُكتب من جديد.
رئيس التحرير / حسين عباس غزالة