في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تعود الحياة بحذر بعد عامين من العدوان الإسرائيلي، تتجسد إرادة الحياة بكل ألوانها في “سوق أرضي”. هذا المعرض، الذي اختار أن يحيي الأرض والذاكرة من خلال رائحة الزعتر والعسل ودبس العنب، ليس مجرد فعالية اقتصادية، بل هو مقاومة تزرع الأمل وتروي الأرض بدماء الصمود. من خلال مقابلات أجراها فريق تحرير “المسمار” مع المشاركين في المعرض، نكتشف أن هذا السوق ليس فقط مساحة لعرض المنتجات، بل هو في الواقع بيان حي عن قدرة اللبنانيين، خاصةً أهل الجنوب والبقاع، على تحويل الألم إلى عمل، والحصار إلى مناخ خصب للإبداع.
الأرض تنبض بالحياة رغم القصف
للمرة الأولى منذ العدوان الأخير، يعيد “سوق أرضي” تجسيد مشهد الأمل، حيث تتحول الأراضي الجنوبية التي طالما عانت من الضغوطات العسكرية إلى مساحات إنتاجية تنتج الزعتر والمربى والفخار والمونة. على هذه الأرض التي اعتادت أن تصمد أمام العدو، ينبت الفخار والزيتون كما تنبت الأمل. في لقاء مع إحدى المشاركات من بلدة بنت جبيل، تحدثت عن تجربتها الشخصية في المعرض قائلة: “أرضنا تحارب كل يوم، ونحن نحارب بعملنا. اليوم، كل قطعة من الزعتر التي نعرضها هنا هي رسالة للعالم أننا باقون هنا، وأن الأرض لن تُهزم”.
هذا المعرض، الذي يضم أكثر من 1000 منتج من مختلف المناطق اللبنانية، يشهد مشاركة واسعة من الجنوب، وهو ما يعكس بشكل جلي العلاقة الوثيقة بين الأرض والإنسان في لبنان. فهذه الأراضي التي تعرضت للعدوان والحصار تتجدد اليوم في المعرض، حيث تتحول الزراعة والصناعة إلى شكل من أشكال المقاومة المتجددة.
سوق أرضي: رائحة الأرض والذاكرة
حين تسير في ممرات السوق، لا تقتصر التجربة على شراء منتجات؛ بل هي رحلة إلى ذاكرة لبنان، إلى أرضه، إلى صموده. من جناح إلى آخر، تحمل كل قطعة من هذه المنتجات تاريخاً طويلاً من المعاناة والعمل: “من الخيام إلى بنت جبيل، من جنوب الليطاني إلى البقاع، هناك من يزرع الزيتون، وهناك من يصنع الكشك والمربى”، يقول الدكتور علي زعيتر، مدير المعرض، خلال حديثه مع فريق “المسمار”. ويضيف: “السوق ليس فقط فعلاً اقتصادياً، بل هو تجسيد للصمود في وجه الحرب الاقتصادية. هذه المنتجات هي حياة، وهي دليل على أن لبنان لا ينهار.”
فريق تحرير “المسمار” أجرى العديد من المقابلات مع المشاركين في المعرض الذين أكدوا أن “سوق أرضي” ليس مجرد مكان لعرض المنتجات، بل هو ميدان من ميادين الصمود. يقول أحد المزارعين الجنوبيين، الذي جاء ليعرض زيت الزيتون الذي ينتجه في قريته: “بعد كل العدوان والضغوطات، عندما ترى الزبون يأخذ مرطبان الزيت، تشعر أن كل تعبك على الأرض قد أثمر. هذا هو الجهاد المستمر، لا نتوقف عن العمل، لأن الأرض لنا، وإن كان العدو يحاول إخضاعنا، نحن هنا نزرع ونحصد ونبيع.”
النساء في “سوق أرضي”: الجهاد الصامت
في “سوق أرضي”، لم تكن النساء مجرد مشاركات، بل كنّ عموده الفقري. معظم التعاونيات التي شاركت في المعرض كانت تديرها نساء من القرى الجنوبية والبقاعية، منهن من خضن تجربة التصنيع المنزلي والتسويق لأول مرة. “نحن في الجنوب لا نصنع المنتجات فقط، بل نزرع الأمل”، تقول أم علي من بلدة كفررمان في حديثها مع “المسمار”. “في كل مرطبان مربى نعرضه في السوق، هناك ذكرى عن عائلتنا، هناك جهاد صامت نمارسه كل يوم عندما نختار أن نزرع ونصنع ونبيع بأيدينا”.
هذه النساء اللواتي وقفن خلف أجنحة المعرض لعرض منتجاتهن، كان لهن دور كبير في تقديم صورة جديدة للمرأة اللبنانية في مناطق المقاومة. الزعتر والمربى والكشك، كلها منتجات خرجت من بين أيدي هؤلاء النسوة ليصبحن جزءاً من صورة جديدة للمرأة المقاومة، والتي لا تقتصر على المقاومة العسكرية، بل تمتد إلى المقاومة الاجتماعية والاقتصادية.
سوق أرضي: أكثر من مجرد معرض
كما يقول الدكتور محمد الخنسا، مدير عام مؤسسة جهاد البناء: “من خلال هذا المعرض، نؤكد أن مسيرة التنمية والإنتاج في لبنان لا تتوقف مهما اشتدت الحروب”. فكل منتج في “سوق أرضي” يحكي قصة مقاومة، وقصة حياة لا تتوقف. من الجنوب إلى الشمال، من البقاع إلى جبل لبنان، يتنقل الزوار بين أجنحة المعرض ليجدوا في كل منتج قصة مقاومة مصنوعة بيد الشعب اللبناني.
الحياة أقوى من الحرب
“سوق أرضي” هو أكثر من معرض، هو تذكير بأن الحياة تستمر رغم كل شيء، وأن المقاومة ليست فقط في المعركة العسكرية، بل هي في العمل اليومي وفي اليد التي تحمل الزرع وتعد الخبز. هو بيان جماعي بأن لبنان أقوى من كل المحاولات التي تهدف إلى إضعافه. في كل مرطبان مربى، في كل شجرة زيتون، في كل قطعة فخار، هناك مقاومة وصمود. الحياة هنا تنبض رغم الحرب، و”سوق أرضي” هو التجسيد الحي لهذا النبض الذي لن يتوقف.




