تحت شعار “مهرجان من أجل الإنسانية”، انطلقت في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 فعاليات الدورة الحادية عشرة من “مهرجان بيروت للسينما الفنية الوثائقية”، في تظاهرة ثقافية تُكرّس السينما كأداة للتعبير الفكري والاجتماعي. المهرجان الذي يمتد حتى نهاية العام الجاري ويواصل فعالياته في العام المقبل، يقدم برنامجاً حافلاً بالعروض السينمائية المتنوعة، المعارض، الندوات، وورش العمل، محاولاً نقل الفن السابع من إطار تقني وفني إلى أفق أعمق يشغل قضايا الإنسان، تحدياته وأزماته الراهنة.
افتتاح مميز وبرامج غنية
افتُتحت الدورة الجديدة بعرض فيلم “الحمراء” للمخرج الفرنسي مارك جامبولسكي، الذي يسرد التاريخ المعماري لقصر الحمراء في غرناطة، مبرزاً تلاقح الثقافات العربية والإسلامية والأوروبية. يعكس هذا العمل السينمائي التنوع الثقافي والإنساني في واحدة من أبرز رموز الحضارة الإسلامية. كما شهد الافتتاح تكريماً للعازفة والمؤلفة اللبنانية الأرمنية، سينثيا زافين، التي نالت جائزة “اليراعات الذهبية” لعام 2025، في لقاء جمع المخرجين اللبنانيين هادي زكاك وإليان الراهب معها لاستكشاف محطات رحلتها الفنية وتفاعلها مع الصوت والصورة والذاكرة.
السينما والفن في مواجهة القضايا البيئية والإنسانية
من بين الأفلام المميزة التي قدمها المهرجان، نجد “الفن المناخي من الاحتجاج إلى الطوباوية” للمخرج الألماني ماثياس فريك، الذي يبحث في كيفية تأثير الفن على البيئة في ظل المخاطر البيئية التي تهدد كوكب الأرض. تلا الفيلم حوار مع جوانا دمر، المتخصصة في علم المياه، استعرض فيه العلاقة بين الفن والبيئة وأدوات التعبير الفني تجاه الأزمات البيئية المتصاعدة.
السينما كوسيلة للحوار الثقافي والفكري
برنامج المهرجان يتنوع بين الأعمال التي تتناول التاريخ، الفن، والذاكرة، مثل فيلم “من إسطنبول إلى بيروت ومن بغداد إلى القاهرة” للمخرجة إيلانا نفارو، الذي يناقش تأثير الحداثة في هذه المدن، بالإضافة إلى فيلم “لون الرمان” الذي يجمع بين الثقافة الفرنسية والأرمنية في تجسيد رقصة فنية تكريماً للمخرج الكبير سيرجي باراجانوف. كما يواصل المهرجان تقديم عروض سينمائية متنوعة مثل “القسطنطينية” و”ديبو” و”أورلاندو”، التي تستعرض مسائل تتعلق بالتاريخ والفن والجغرافيا من زوايا فكرية وجمالية جديدة.
إحياء الذاكرة: معارض ومحاضرات فلسفية
في إطار التفاعل الثقافي، يقدّم المهرجان معرضاً خاصاً للشاعرة اللبنانية الراحلة إيتيل عدنان، بمناسبة مرور مئة عام على ولادتها، ليكون هذا المعرض بمثابة قراءة جديدة لأثرها الكبير في الأدب والفنون البصرية. المعرض، الذي تنظمه المكتبة الشرقية بجامعة القديس يوسف، يتضمن قصائد وروايات ومقالات من أرشيف عدنان الذي يمتد من عام 1966 حتى 2021، ويستمر حتى 19 كانون الأول/ديسمبر 2025.
أما في المجال الفكري، فقد قدم المهرجان محاضرة للبروفيسور نادر البزري بعنوان “المتاحف كأنساق وجودية معمارية للذاكرة والاستشراف المستقبلي”، حيث تناول فيها دور المتاحف في حفظ الذاكرة والتفاعل مع الزمان والمكان من منطلقات فلسفية ومعمارية، مشيراً إلى أهمية هذه الأماكن في خلق تواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
الفن كأداة مقاومة: غزة وحكاية الذاكرة
كما خصص المهرجان مساحة هامة للقضية الفلسطينية، حيث أُدرجت ضمن البرنامج حلقة “غزة باقية”، التي تضم أفلاماً وندوات تسلط الضوء على تاريخ غزة وما تعيشه من تحولات ونضال. تضمن البرنامج عرض كتاب “غزة: نقل التراث” للمؤرخ رينيه آلتر، الذي عمل في غزة لمدة 25 عاماً، وأدار ندوة بعنوان “غزة: تاريخ وبطولات وتحوّلات”، بمشاركة المؤرخين والمتخصصين في الآثار.
واستكمالاً لهذا التوجه، يُعرض للمرة الأولى في الشرق الأوسط فيلم “ضع يدك على روحك وانطلق” للمخرجة سيبيدا فاريس، الذي يُعد بمثابة رد فني على المجزرة بحق الفلسطينيين، حيث يقدم الفيلم شهادة ميدانية من فاطمة حسونة، التي وثّقت الأحداث من داخل غزة، مستعرضة عبر الصورة والصوت ما شهدته من دمار ومجازر.
مهرجان يعيد للسينما إنسانيتها
يستمر مهرجان بيروت للسينما الفنية الوثائقية في دورته الحادية عشرة بتقديم أفلام ومعارض ونقاشات تفتح أفقاً جديداً للسينما كأداة للتعبير عن قضايا الإنسان والمجتمع. بفضل برنامجه الغني والمتنوع، يظل المهرجان بمثابة منصة ثقافية تحتفل بالفكر، الفن، والذاكرة، داعياً الجمهور للتفاعل مع قضايا الإنسان في ظل التحديات البيئية، الثقافية والسياسية التي تواجه العالم اليوم.




