يُعدّ الاضطراب الاكتئابي أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً وانتشاراً، حيث يتمثل في تكدّر المزاج وفقدان الاستمتاع أو الاهتمام بالأنشطة اليومية لفترات طويلة. وهو يختلف تماماً عن التقلبات المزاجية العابرة التي قد ترافق تحديات الحياة اليومية، إذ يؤثر بشكل مباشر على مجالات أساسية من حياة الفرد، مثل العمل، الدراسة، والعلاقات الاجتماعية.
ورغم أن أي شخص يمكن أن يتعرض للاكتئاب، إلا أن بعض الفئات أكثر عرضة للإصابة، مثل من مرّوا بتجارب صعبة كفقدان الأحبة أو التعرض لسوء المعاملة. وتشير الإحصاءات إلى أن النساء يتأثرن به بنسبة أعلى من الرجال، كما يُسجَّل ارتفاع لافت في معدلاته لدى فئة الشباب، حيث ارتفعت نسب الإصابة بالاكتئاب والقلق بما يقارب 25%، خاصة بين المراهقات. ويُعدّ الانتحار من أخطر نتائجه، إذ يودي بحياة نحو 800 ألف شخص سنوياً، معظمهم بين سن 15 و29 عاماً.
لغز بيولوجي معقّد
صعوبة مواجهة الاكتئاب تكمن في أن طبيعته البيولوجية لم تُفهم بالكامل بعد، ما يجعل تحديد عدد المصابين به بدقة مهمة شبه مستحيلة. ولطالما اعتُبر مرضاً يرتبط بالعوامل النفسية والاجتماعية فقط، إلا أن الأبحاث الحديثة أثبتت أنه يتجاوز ذلك ليشمل تغيرات عضوية واضحة في الدماغ.
دراسة علمية حديثة كشفت عن نوعين محددين من الخلايا العصبية والدبقية التي تتأثر مباشرة لدى المصابين بالاكتئاب. التحليل أظهر وجود خلل في نشاط عدد كبير من الجينات داخل هذه الخلايا، وهو ما ينعكس على أنظمة عصبية مسؤولة عن تنظيم المزاج والتوتر وكذلك عن التحكم بالالتهابات.
بنك دماغ نادر يكشف أسراراً جديدة
اعتمد الباحثون على عينات دماغية نادرة جُمعت بعد الوفاة، ما أتاح لهم استخدام تقنيات متطورة لتحليل الشفرة الوراثية على مستوى الخلية الواحدة. هذه المقاربة غير المسبوقة وفّرت خريطة دقيقة للتغيرات الجزيئية التي تصاحب الاكتئاب، وأكدت أن المرض ليس مجرد حالة نفسية عابرة، بل له جذور بيولوجية يمكن قياسها وفهمها.
نحو علاجات أكثر دقة
الخطوة العلمية الأخيرة وُصفت بالاختراق، كونها تفتح الباب أمام تطوير أدوية أكثر استهدافاً للخلايا المتأثرة مباشرة بالمرض. الباحثون يخططون لمواصلة دراسة كيفية انعكاس هذه التغيرات على وظائف الدماغ، وما إذا كان التدخل المباشر في هذه الخلايا قد يؤدي إلى تحسين فعالية العلاج أو حتى الوقاية من المرض.
ما وراء الصورة النمطية
الاكتئاب ليس ضعفاً شخصياً ولا مجرد حالة من الحزن؛ إنه مرض حقيقي له أساس بيولوجي، يفرض تحديات واسعة على الصحة العامة ويشكّل خطراً على الحياة إذا لم يُعالج. هذه النتائج العلمية الأخيرة تمثل خطوة مهمة نحو تغيير النظرة المجتمعية إلى الاضطراب النفسي، وتعزز الأمل في الوصول إلى حلول علاجية أكثر دقة وفعالية لملايين المتأثرين به حول العالم.