في خضم الصراع المستمر في غزة وما يعانيه لبنان من تداعيات الحروب والاحتلال، أثار نشر مقال علمي حول “الحمية المتوسطية” في مجلة فرونتيرز السويسرية جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والسياسية في لبنان. المقال، الذي شاركت في كتابته نقيبة اختصاصيي التغذية في لبنان، نهلا حولا، أثار موجة من الاستنكار بسبب مشاركة الباحث الإسرائيلي إيليوت بيري من جامعة هداسا العبرية في القدس في كتابة المقال. البحث العلمي، الذي تناول تأثير الحمية المتوسطية على الصحة، لم يكن محور الجدل العلمي فقط، بل أصبح موضوعًا سياسيًا حساسًا يعكس التوترات الجيوسياسية في المنطقة.

البحث المشترك مع باحثين إسرائيليين
مقال فرونتيرز، الذي حمل عنوان “الحمية المتوسطية وأثرها على الصحة”، شهد مشاركة حولا ككاتبة أولى في البحث، إلى جانب الباحث الإسرائيلي بيري الذي جاء اسمه في المركز الخامس كأحد المشاركين في الموضوع. ورغم أن مشاركة بيري كانت جزءاً لا يستهان به من البحث، فإن حولا لم تُبدِ أي اكتراث لوجود اسمه، بل أكملت نشر المقال دون أن تثير أي اعتراض على هذه المشاركة. ما أثار قلق الكثيرين هو توقيت نشر المقال في ظل الأحداث المؤلمة التي تمر بها غزة، مما جعل التعاون مع باحث إسرائيلي يثير تساؤلات حول إمكانية اعتباره تطبيعًا علميًا.
الجامعة الأميركية في بيروت والتفاعل مع القضية
البداية كانت مع الجامعة الأميركية في بيروت، التي نشرت البحث على صفحتها الخاصة على موقع “لينكد إن”، وأشادت بقيادة حولا للفريق البحثي. ولكن مع تصاعد الجدل في الأوساط الأكاديمية، اضطرت الجامعة إلى حذف المنشور من صفحتها بعد أن أثيرت انتقادات حادة من قبل باحثين وأكاديميين من داخل الجامعة. هؤلاء الباحثون طالبوا الجامعة بالتدخل لضمان إزالة اسم الباحث الإسرائيلي أو سحب المقال بشكل كامل. لم يكن الرفض مقتصرًا على تصرف حولا فقط، بل أعرب الأكاديميون عن مخاوفهم من أن يكون هذا التعاون بداية لفتح باب التطبيع تحت مسمى البحث العلمي.
موقف باحثين لبنانيين وعرب من التعاون مع إسرائيل
حالة الجدل لم تقتصر على الجامعة الأميركية في بيروت فقط، بل تعدتها إلى الباحثين اللبنانيين والعرب. فقد عبر العديد منهم عن رفضهم المطلق لأي نوع من التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية، معتبرين أن مثل هذه الخطوات قد تضر بالقضية الفلسطينية وتفتح أبوابًا جديدة للتطبيع تحت غطاء العلم. ما جعل هذه الحملة تكتسب زخماً أكبر هو الأوضاع الراهنة في غزة، حيث يُتهم العدو الإسرائيلي بارتكاب إبادة جماعية بحق المدنيين في غزة، ما جعل أي شكل من أشكال التعاون مع باحثين إسرائيليين موضع شك.
البحث العلمي بين السياسة والأخلاق
يطرح هذا الموضوع تساؤلات أعمق عن حدود البحث العلمي في ظل التوترات السياسية الراهنة. فهل يمكن للبحث العلمي أن يكون بمعزل عن السياسة؟ هل يجب أن يظل الأكاديميون ملتزمين بقيمهم الإنسانية والأخلاقية في مواجهة الانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني؟ في حين يرى البعض أن التعاون العلمي قد يساهم في تقارب الفهم بين الثقافات والشعوب، يرى آخرون أن أي تعاون مع الكيان الإسرائيلي هو بمثابة خيانة للقضية الفلسطينية وللحقوق الإنسانية.
الحساسية السياسية في لبنان والمجتمع الأكاديمي
لبنان، الذي يعاني من الأزمات السياسية والاقتصادية، ليس في منأى عن هذا الجدل. فالأوساط الأكاديمية اللبنانية عادة ما تكون حاضنة للأيديولوجيات السياسية، وتُظهر انقسامًا واضحًا بين مؤيد ومعارض لأي شكل من أشكال التعاون مع الكيان الإسرائيلي. فحتى في إطار البحث العلمي، تصبح القرارات التي تتخذها الشخصيات الأكاديمية محط نقاش واسع في الأوساط الإعلامية والسياسية.
بين العلم والسياسة
إن الجدل الذي أثاره مقال “الحمية المتوسطية” يعكس بشكل جلي التحديات التي يواجهها الباحثون في ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة. فإذا كان العلم يهدف إلى تقدم الإنسانية ورفاهها، فإن هذا التقدم قد يتعرض للتهديد عندما يتداخل مع قضايا سياسية حساسة مثل التطبيع مع العدو الإسرائيلي. وعليه، فإن البحث العلمي يجب أن يظل وفياً لقيمه الإنسانية، وأن يُؤخذ في الحسبان تأثيرات هذه القرارات على المجتمع والعلاقات بين الشعوب.
مما لا شك فيه، أن هذا الموضوع سيظل يشغل الأوساط الأكاديمية والسياسية في لبنان لفترة طويلة، وسط تساؤلات مستمرة حول كيفية التوازن بين التطور العلمي والمواقف السياسية في عصر يتسم بالصراع والتوتر.