في عالم الرياضة، لا تقتصر البطولة على التحديات البدنية فقط، بل تتعداها لتشمل التحديات النفسية والعاطفية. وهذا ما يختصر قصة اللاعبة البارالمبية العراقية نجلة عماد، التي تحدت ظروفها الصعبة وأعاقت جسدها لتحقق إنجازات رياضية لم يكن يتخيلها أحد.
طفولة مدمرة وحياة جديدة بدأت بعد الكارثة
ولدت نجلة في 1 ديسمبر 2004 في مدينة بعقوبة شمال شرق بغداد. كانت الطفولة عادية، حتى جاء يوم 19 أبريل 2008، الذي غير حياتها إلى الأبد. كانت نجلة، التي لم تتجاوز الثالثة من عمرها، ضحية لتفجير عبوة ناسفة استهدفت والدها العسكري. انفجار تركها فاقدة لثلاثة من أطرافها، ليبدأ معها رحلة صعبة من الألم والانتظار.
من السكون إلى الحركة: العودة إلى الحياة عبر الرياضة
عندما بدأت نجلة في إدراك حقيقة إعاقتها في الصف الرابع، شعرت بأنها تختلف عن باقي أطفال جيلها. “كنت أراهم يركضون ويلعبون، بينما كنت أجد نفسي جالسة على كرسي متحرك، أتمنى أن أكون مثلهم”. لكن إصرارًا غير عادي في قلبها دفعها إلى تجاوز الحواجز. وبدلاً من الاستسلام لليأس، كانت كرة الطاولة هي الطريقة التي استخدمتها لانتزاع الأمل.
مع مضرب بسيط في يدها، بدأت نجلة تمارس اللعبة على جدار منزلها لساعات طويلة، بينما كانت تواجه صعوبة في التكيف مع الأطراف الصناعية التي كانت تقدمها لها العيادات الطبية. لكن الدعم المستمر من والدها وصديقه المدرب حسام البياتي كانا حافزًا مهمًا على الاستمرار.
الرياضة كترياق للروح
الرياضة بالنسبة لنجلة لم تكن مجرد منافسة، بل كانت مخرجًا من الظلام النفسي الذي تركه التفجير في قلبها. “عندما أشعر بالتعب النفسي أو الحزن، أجد نفسي أسرع نحو الطاولة لأمارس اللعبة، إنها تساعدني على التخلص من كل ما يراودني من أفكار سلبية”. ورغم التحديات الكبيرة التي واجهتها، فإنها لم تتوقف عن ممارسة الرياضة، بل كانت دائمًا تجد في تلك اللعبة مفرًا من الهموم.
الانطلاق نحو البطولات
بعد ستة أشهر من التدريب المكثف، قررت نجلة المشاركة في أول بطولة محلية لها في بغداد. لم يكن أحد يتوقع أن تحقق شيئًا، لكنها قدمت أداءً مدهشًا وفازت بالبطولة. ومن هنا، بدأت أبواب المجد تفتح أمامها.
وبعد عام من ذلك، انضمت إلى المنتخب البارالمبي العراقي، مما أعطاها الفرصة للمشاركة في تدريبات يومية جعلت منها واحدة من أبرز لاعبي المنتخب. ورغم المسافات الطويلة والتعب الناتج عن السفر بين بعقوبة وبغداد، استمرت نجلة في تمارينها بلا توقف، كانت الرياضة هي السلاح الذي تستخدمه لمواجهة كل صعوبة.
العالم يشهد إنجازاتها
مع مرور الوقت، بدأت نجلة في جمع الإنجازات. في دورة الألعاب البارالمبية في طوكيو 2021، مثلت العراق لأول مرة في هذه المحفل الكبير، وكانت تلك بدايةً لانطلاقاتها العالمية. في 2022، حققت الميدالية الذهبية في الألعاب الآسيوية البارالمبية في الصين، وأعقبتها بعدد من الألقاب الدولية في مصر والأردن.
لكن إنجازها الأبرز كان في دورة الألعاب البارالمبية في باريس 2024. كانت تلك اللحظة تاريخية للعراق، إذ فازت نجلة بأول ميدالية ذهبية بارالمبية في تاريخ البلاد، بفوزها المثير على الأوكرانية ماريانا ليتوفشينكو في المباراة النهائية. بهذا الإنجاز، أصبحت نجلة عماد رقمًا قياسيًا عالميًا في تصنيف الاتحاد الدولي لتنس الطاولة في فئة السيدات.
تحديات في كل خطوة
نجلة تتذكر بحماس التحديات التي واجهتها في تلك البطولة. فقد كانت مباراتها ضد الفرنسية كايلود مورغان، التي أقيمت على أرضها وبين جمهورها، اختبارًا حقيقيًا لها. ولكنها فازت بثلاثة أشواط نظيفة، لتصعد إلى المربع الذهبي. وفي نصف النهائي، استطاعت أن تهزم الروسية ماليك ألييفا وتصل إلى النهائيات، لتتوج بالذهب في نهاية المطاف.
التكريم والشرف
بعد العودة من باريس، كان هناك استقبال رسمي وشعبي كبير لنجلة، حيث تم تكريمها من وزير التعليم العراقي، وتم منحها مقعدًا دراسيًا في كلية التربية الرياضية. كما تم تكريمها أيضًا في بطولة الأندية العربية لتنس الطاولة في عمان عام 2025، حيث ألقت كلمة الافتتاح تكريمًا لمسيرتها الملهمة.
الطموح المستمر
لكن نجلة لا ترى أن الطريق انتهى هنا. “أطمح دائمًا لتحسين مستواي، والاحتفاظ بما حققته من إنجازات، بل السعي للحصول على المزيد من الألقاب في المستقبل”، تقول نجلة بتفاؤل. وتوجه رسالة إلى جميع الفتيات في العالم العربي: “إذا كانت لديكن الإرادة، فلا شيء يمكن أن يقف أمامكن. استمروا في السعي وراء أحلامكن، ولا تدعوا أي صعوبة توقفكن عن الوصول إلى هدفكن”.
قصتها ليست مجرد قصة انتصار رياضي، بل هي قصة إصرار وتحدي، تكسر الحدود وتلهم كل من يواجه صعوبة في حياته. نجلة عماد أثبتت أن الإعاقة ليست سوى تحدٍ يمكن التغلب عليه بالعزيمة، وأن الطريق نحو النجاح ليس معبدًا بالورود، بل مليئًا بالمعوقات التي يمكن تخطيها بالقوة والإرادة.