هذا اليوم، لو حاولت كلّ منظومات الأرض، وسرديّات الدّول الإستعماريّة، والقوى الإعلاميّة الممنهجة محوه من ذاكرتي وذاكرة أبناء الضّمير الحيّ في وطني، لن يستطيعوا. لو خضنا حيوات على مدى مليار سنة ضوئيّة، ستبقى هذه الجريمة الإرهابيّة راسخة عن عدوٍّ لا يجوز له إلا الإنحلال والزّوال.
ليليان حمزة..
كنت خارجةً من عملي حوالي السّاعة الثالثة والنّصف متوجّهةً إلى بلدتي في الجبل. سلكتُ طريق المطار التي توصلني إلى خلدة. كانت تلك الطّريق الأنسب لأهرب من باقي زحمات السّير.. لكنّ زحمة السّير هناك على طريق مستشفى الرّسول الأعظم ذاك اليوم لم تكنّ كأي زحمة أخرى.. ليس حادث سيرٍ عاديّ، ولا أشغال، ولا صيانة للطرقات لتعوق الحركة.. كنّا حينها في حالة حرب ضروس على الجنوب، لكن لم تصل بعد إلى بيروت.
السّيارات تكدّست وبدأ توافد سيارات الإسعاف، الواحدة تلو الأخرى.. وليس بعددٍ قليل!
علا الصّراخ.. أصوات زمامير السّيارات أضحى جنونيًّا.. شبّان يطلبون من السيارات فتح المسار، ورأيتُ شابًا ينقل والدته المصابة إلى المستشفى على الدراجة النارية. ولكن ضاقت المساحة، وملأت المكان أشباح الخوف والألم والقلق، واختنقت الكلمات عندما وصلتني أخبار عاجلة “عدّة إنفجارات لأجهزة البيجر”، مع انتشار واسع للفيديوهات في المحال التّجاريّة والمستشفيات حيث تنفجر الأجهزة بين أيديهم.
أدركتُ حينها أنّها عملية إسـ.رائيلية خبيثة صامتة ومؤذية لا تطرق إلاّ طبول الحرب!
دوت صفارات سيارات الإسعاف في جميع أنحاء بيروت حتى آخر ساعات اللّيل، وبتنا نخاف أن نستخدم هواتفنا الذّكيّة لئلا انفجرت بين أيدينا، ففي لحظةٍ واحدة، وبكبسة زرٍّ واحد، كان الهدف قتل خمسة عشر ألف إنسان. فهل يأبه الكيان الصّهيوني لموت الملايين حين يخطّط لكسر شعبٍ ما وإضعاف عزيمته؟! قطعًا لا!
تلا هذه الجريمة تفجير أجهزة “الوكي توكي” في اليوم التّالي.. وتوالت من بعدها النّكبات، وعمليّات قتل الأبرياء، وحربٌ قاسية دمّرت قلوبنا وحالتنا النّفسيّة وأدخلتنا بفوضى الحواس والاكتئاب الذي لا يزال يرخي بظلاله علينا حتّى اليوم مع كلّ صورة شاب فقد عينيه أو يديه.. مع صورة كلّ شهيد.. مع الجنوب المدمّر.. مع ضحكات الأطفال المخطوفة.. مع أوجاع النّساء اللواتي فقدن أزواجهن أبطالاً شجعانًا في الميدان.. مع القيادات الاستثنائية التي فقدناها.. ومع استمرار الإحتلال بإجرامه وانتهاكه لأراضينا وقتل خيرة شبابنا.
فمتى نرتاح، ومتى يعود الفرح إلى قلوب الموجوعين؟ ومتى يأخذ كلّ صاحب حقٍّ حقّه؟!