في موقف سياسي وُصف بأنه من الأكثر جرأة منذ سنوات، أعلنت أنقرة على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان قطع العلاقات الاقتصادية والتجارية بالكامل مع “إسرائيل”، بما في ذلك إغلاق الأجواء أمام الطائرات الإسرائيلية ومنع السفن التركية من التوجه إلى الموانئ الإسرائيلية. الخطوة جاءت في لحظة حرجة، حيث تستمر الحرب على غزة وسط انتقادات متصاعدة للنظام الدولي وصمت الغرب أمام ما وصفه فيدان بـ”الإبادة الجماعية”.
دلالات القرار
الموقف التركي يتجاوز البعد الإنساني ليحمل بعداً استراتيجياً. ففيدان اتهم إسرائيل بالسعي لإنهاء حل الدولتين وفرض واقع احتلال كامل بدعم أميركي غير محدود، مؤكداً أن سياسة “التجويع والتهجير” تهدف إلى جعل غزة غير قابلة للعيش. من هنا، يبرز قرار أنقرة كإعلان صريح عن رفض أي تسوية تقوم على فرض الأمر الواقع بالقوة.
كلفة اقتصادية… ومكاسب سياسية
تركيا وإسرائيل كانتا شريكتين اقتصادياً، إذ بلغ حجم التبادل التجاري بينهما أكثر من 6 مليارات دولار سنوياً. قطع هذه العلاقات سيؤثر على قطاعات عديدة داخل تركيا، لكن القيادة التركية تراهن على أن المكاسب السياسية والإقليمية ستعوّض هذه الخسارة، عبر تعزيز الشراكات مع دول عربية وإسلامية مثل قطر ومصر والجزائر.
رسائل مزدوجة
الخطوة تحمل رسائل مباشرة:
إلى واشنطن: أنقرة قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية مستقلة، ولن تساوم على الملف الفلسطيني رغم الضغوط الغربية.
إلى تل أبيب: لا يمكن لإسرائيل مواصلة سياساتها في غزة من دون ثمن سياسي واقتصادي، خاصة أن تركيا تشكّل ممراً حيوياً في شرق المتوسط.
لماذا تأخر القرار؟
يطرح مراقبون سؤالاً مشروعاً: لماذا لم تقطع أنقرة علاقاتها مع “إسرائيل” منذ سنوات، خصوصاً بعد أحداث “مافي مرمرة” عام 2010 أو الحروب السابقة على غزة؟
من الزاوية الأخلاقية، كان يمكن لتركيا أن تتخذ هذا الموقف مبكراً لتعزيز صدقيتها.
أما من الزاوية البراغماتية، فقد كانت أنقرة حريصة على حماية مصالحها الاقتصادية وسط أزمات داخلية، وتوظيف العلاقة مع إسرائيل كورقة ضغط إقليمية ودولية. ومع تصاعد جرائم الحرب في غزة وتزايد الضغوط الشعبية، رأت تركيا أن كلفة الاستمرار في العلاقة باتت أكبر من كلفة إنهائها.
تداعيات إقليمية
هذا القرار سيضع الدول العربية المطبّعة مع إسرائيل في موقف حرج أمام شعوبها، كما أنه يعزز موقع تركيا كفاعل رئيسي إلى جانب مصر وقطر في أي مسار تفاوضي مقبل. لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام توتر أكبر مع الولايات المتحدة وأوروبا، وربما مع إسرائيل في ملفات أخرى كالساحة السورية وشرق المتوسط.
رغم تأخره، يمثل القرار التركي بقطع العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل خطوة ذات رمزية سياسية كبيرة. فهو يعكس تحوّلاً في حسابات أنقرة، من سياسة “الموازنة بين الخطاب والدبلوماسية” إلى تبنّي موقف صدامي مباشر. وفي حين سيدفع الاقتصاد التركي جزءاً من الثمن، فإن المكاسب السياسية والإقليمية قد تجعل من هذه الخطوة استثماراً استراتيجياً طويل المدى، يعزز مكانة أنقرة كقوة إقليمية تتبنى القضية الفلسطينية وتجرؤ على تحدي واشنطن وتل أبيب.