في اليوم الـ685 من الحرب على غزة، لم يعد الاحتلال يكتفي بالقصف والدمار، بل أحكم خناقه على المدينة حتى صار الحصار كأنفاسٍ تُسحب من صدور الناس. الموت هنا لا يأتي فقط بصوت الصواريخ، بل يتخفّى في معدةٍ فارغة، وفي كأس ماءٍ مفقود، وفي دواءٍ يُمنع عن مريض يتلوى على فراشه. الاحتلال الإسرائيلي يستخدم الجوع كسلاح إبادة، يخنق به مليونين ونصف المليون إنسان، ليحوّل الحياة اليومية إلى صراعٍ مرير مع الجوع والعطش.
ثلاثة شهداء آخرون سقطوا خلال الساعات الأخيرة بسبب التجويع، ليرتفع العدد إلى 269 إنسانًا قضوا بسوء التغذية، بينهم 112 طفلًا. هؤلاء الأطفال لم يموتوا برصاص مباشر، بل ماتوا ببطء، وهم يمدّون أيديهم نحو رغيفٍ بعيد أو قطرة حليب لا تصل. أحد الآباء في شمال القطاع يقول: “حملت طفلي إلى المستشفى بعدما فقد الوعي. لم يكن يعاني من جرحٍ أو قصف، بل من الجوع. لم أجد له حليبًا منذ أسابيع، وكنت أطعمه الماء مع القليل من السكر حتى نام إلى الأبد”.
في حي الزيتون وحده، دُمّر أكثر من 450 منزلًا وبناية، لم يبقَ منها سوى الركام. لكن حتى الركام لم يعد كافيًا ليروي القصة؛ فالمأساة الأكبر تسكن في الأسواق، حيث تحوّل الغذاء إلى حلم بعيد المنال.
كيلو الدقيق الذي كان يُشترى بعشرة شيكل، صار يُباع بأكثر من ٤٠٠ شيكل (مات يعادل ١٢٠ دولار امريكي) إن وجد.
لتر الزيت تضاعف ثمنه عشرات المرات، حتى بات بعض العائلات تكتفي بملعقة صغيرة منه لتوزعها على أيام.
كيلو الأرز صار أغلى من الذهب، حتى غدا حديث الناس: “الأرز صار لمن يملك المال فقط، أما نحن فنتقاسم كسرة خبز يابسة”.
أم من مخيم الشاطئ تقول بصوتٍ مبحوح: “كنت أخبز لأولادي كل يوم، اليوم لا أملك ما أعجن به الطحين. صار الخبز ذكرى، وصار الأطفال ينامون وهم يتحدثون عن رغيفٍ لم يروه منذ شهور”.
لكن الاحتلال ليس وحده في هذه الجريمة. جشع بعض التجار داخل غزة جعل من الجوع تجارة رابحة. يبيعون بقايا الإنسانية في أسواق مظلمة، يضاعفون الأسعار بلا رحمة، وكأنهم شركاء الاحتلال في خنق الناس. الغزيّ هنا لا يواجه العدو فقط، بل يواجه أيضًا طمع أخيه الذي حوّل المعاناة إلى تجارة.
أما العالم، فهو يرى كل ذلك بعيونٍ باردة. الأمين العام للأمم المتحدة يخرج ببيان جديد: “نطالب بوقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن”، لكنه لا يملك أن يضع رغيفًا في يد طفل، ولا أن يفتح طريقًا لشاحنة دواء عالقة عند الحواجز. العالم يتكلم، لكنه لا يفعل، يراقب غزة وهي تنزف بين فكيّ الحصار والجوع.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة؛ إنها جرح الإنسانية والعروبة المفتوح، وصورة صارخة للعالم الذي باع صمته، حيث يلتف الخناق الإسرائيلي على عنقها، فيما تنهش أنياب الطمع بقايا ما تبقى. الطفل في غزة يُقتل مرتين: مرة بيد الاحتلال، ومرة بألم الجوع.
ومع ذلك، تبقى غزة واقفة، رغم كل شيء. تبقى الشهادة على أن الروح التي تُحاصر لا تُهزم، وأن الجوع قد يفتك بالأجساد لكنه لا يطفئ الكرامة. إن غزة، في وجعها وصمودها، تحفر اسمها في ذاكرة التاريخ كأصدق برهان على أن الشعوب قد تجوّع، قد تُقصف وتُهدم بيوتها، لكنها لا تنكسر.