كأنّ العرب إذ يفتّشون في التراب، لا يبحثون عن حجارة، بل عن ملامحهم التي دفنوها تحت الزمن، عن أصوات كانت هنا، وضحكات انطفأت، وملوكٍ مشوا حفاةً في أحلام الطين.
العواصم التي لبست عباءة الحداثة، ها هي تعود إلى مهدها… تنبش ذاكرتها بالأصابع المرتجفة، وتسأل:
“من كنّا قبل أن نصير ظلالاً في عيون الغرباء؟”
في مصر، لا تزال الأقصر تنام على مَتْنِ نيلٍ يحفظ أسماء الموتى في ضفّته، وسقارة تحرس السرّ في صمتها الصاعد من الحجارة.
وفي الخليج، من عُمان التي تحمل على كتفها إرث البر والبحر، إلى الشارقة التي تمشي بخطى واثقة نحو ذاكرتها، تبدو الحفرياتُ كأنها صلاةُ الأرض لتتذكّر.
هنا، في الزبارة، أو في “بات” العمانية، لا نُخرج العظام من باطنها لنُعلّقها في المتاحف… بل نُخرجها لنقرأ على جماجمها قصائد لم تُكتب بعد، ونسمع بين الأضلاع أغنية الإنسان الأولى وهو يكتشف النار واللغة والحب.
أيّها الماضون من تحت التراب، ها نحن نعود إليكم… لا لنسرق مجدكم، بل لنطلب الغفران من أحفادكم، لأننا نسينا الطريق إلى أرواحنا حين عبدنا الحداثة.
العرب الذين نُعتوا طويلاً بأنهم عابرون في كلامٍ عابر، أصبحوا حُرّاس الذاكرة، يكتبون بالفُرَش وأدوات الترميم، ويرممون وجوهًا غابت عن الشمس آلاف السنين، لتعود إلى الضوء كما يعود الغريبُ إلى بيته في القصيدة.
ومثلما قالوا: “الصدفة مرآة الحالم”، فقد انكشفت أعظم الأسرار حين كان الأطفال يلعبون، أو حين انكسرت الريح على تلة منسية، أو حين أزاح المطر عباءة الرمل عن مدينةٍ لم تروِ حكايتها بعد.
لكن الصدفة ليست كافية لبناء معرفة…
فها هم علماء العرب، من أحمد فخري الذي نقّب عن أجداده كما ينقّب الشاعر عن البيت المفقود، إلى عويضة الذي رأى في المقابر معابدَ للحقيقة…
يضعون اللبنة تلو اللبنة، لبناء مدرسة عربية لا تسكن الظلّ، بل تنافس الغرب في أدواته، بلغة الأرض لا بلغة السوق.
نحن لا نعيد الآثار إلى الرفوف…
نحن نعيدها إلى الحكاية، نُخرجها من المتحف لتعود إلى الأم…
إلى القرية…
إلى الطفل الذي لا يعرف أن جده السابع كان شاعرًا يكتب بالنقوش على الجدران قبل أن يعرف الورق.
علم الآثار ليس مجرد مهنة…
إنه الطريقة الوحيدة التي تقول بها الحضارات القديمة: “ما زلنا هنا”،
وإننا نحن، الذين نحفر اليوم، لا نبحث عن الذهب،
بل عن الجملة الناقصة في تاريخنا.
فكل تمثال نكتشفه، هو إصبعٌ يشير إلينا…
وكل حجرٍ منسيٍّ في قلب الصحراء، هو قلبٌ يريد أن ينبض من جديد.