في مساء رمضاني هادئ في احدى البلدات اللبنانية، وبينما كانت العائلات تتحضّر للإفطار، اختفى صوت ضحكة طفل صغير اعتاد الحي سماعها كل يوم. كان الطفل السوري، ابن السنوات السبع، قد خرج للعب كعادته، غير مدرك أن خطواته القريبة من باب منزل الجار ستكون الأخيرة في حياته القصيرة.
لاحظ الوالد تأخر ابنه عن العودة، وبدأ القلق يتسلل إلى قلبه مع اقتراب أذان المغرب. خرج إلى الشارع، نادى باسمه مرارًا، ثم استعان بالجيران. انتشر الجميع في أزقة البلدة، يطرقون الأبواب ويسألون العابرين، لكن الوقت كان يمضي دون أي أثر. لم يكن أحد يتصور أن الجريمة قد ارتكبت بالفعل، وأن الجاني يراقب من بعيد ما يحدث ببرود قاتل.
عبدو، جارهم البالغ من العمر خمسة وعشرين عامًا، كان معروفًا في الحي بسلوكه الغريب. كثير الصمت، عديم الاختلاط، يتحدث مع نفسه أحيانًا، ويتعاطى المخدرات علنًا. قبل عام، حاول الانتحار، وعاد بعد فترة إلى منزله كأن شيئًا لم يحدث. لم ينتبه إليه أحد في تلك الليلة، رغم أن جارًا شاهده يقفل باب منزله بقوة قبل لحظات من بدء البحث عن الطفل.
لم تكن هناك حاجة إلى الكثير من الاستنتاج. بعد ساعات من البحث المضني، وصلت دورية من قوى الأمن الداخلي إلى المكان. بدت الشكوك واضحة، وبضغط من بعض الجيران، تقرر مداهمة منزل عبدو. ما إن دخلوا حتى ارتطمت أنوفهم برائحة نفاذة ومريبة، قادتهم إلى غرفة النوم. فتحوا الخزانة ليعثروا على كيس قمامة أسود، مرميّ في الزاوية. فتحوه… وهناك، كان الطفل.
المشهد الذي وجدته القوى الأمنية كان يفوق قدرة أي عقل على الاستيعاب. جسد صغير مسجى بعناية شيطانية، وعلامة ذبح واضحة في العنق، كأن القاتل أراد إنهاء حياة كاملة بضربة واحدة. لم يكن في البيت سكين واحد فقط. وجد المحققون أدوات حادة أخرى، ومخلفات مواد مخدرة، وورقة صغيرة مكتوب عليها بخط مهزوز: “أنا مريض”.
لم ينف عبدو التهمة. لم يدافع عن نفسه. اكتفى بالجلوس أرضًا، يحدق في الجدران. لم يظهر ندمًا ولا غضبًا. بدا كما لو أنه انفصل عن الواقع بالكامل. في مركز التحقيق، تحدث بصوت خافت عن “صوت في رأسه” طلب منه أن “يسكت الطفل”، ولم يقل أكثر من ذلك.
في اليوم التالي، أصدرت عائلته بيانًا يتبرأ منه بالكامل. وصفت الجريمة بالبشعة، وطالبت بإنزال أشد العقوبات عليه. قالوا إنهم لم يكونوا يعلمون أنه قد يصل إلى هذا الحد، لكن مصادر مقربة من العائلة تحدثت عن إهمال طويل لوضعه النفسي، وعن محاولات سابقة لعلاجه انتهت دائمًا بالفشل.
الجريمة هزّت الرأي العام اللبناني. لكنّها، في عمقها، ليست معزولة. فخلال السنوات الأخيرة، تزايدت حوادث العنف في لبنان، لا سيما تلك التي تطال الأطفال، خاصة من أبناء اللاجئين السوريين. الأزمة الاقتصادية التي بدأت في خريف 2019 دمرت ما تبقى من مؤسسات الحماية الاجتماعية، وتركت الأسر الأضعف عرضة لكل أشكال الخطر. تقرير صادر عن اليونيسيف في 2023 أشار إلى أن أكثر من 80% من الأطفال في لبنان يعانون من فقر متعدد الأبعاد، ما يجعلهم مهددين بالعنف، الاستغلال، وحتى القتل.
في البلدة التي يسكن فيها عبدو، كان المشهد كئيباً في اليوم التالي. الطفل لم يعد، ودمه ترك أثرًا لا يُمحى في أذهان الجميع. أصدقاؤه في الحي توقفوا عن اللعب لعدة أيام. صارت الضحكة نادرة، والسؤال دائمًا حاضر: كيف يُقتل طفل على يد جاره؟ كيف ينام قاتل إلى جانب جثة طفل دون أن يرتجف؟
الجريمة انتهت، لكن السؤال الأهم لا يزال بلا إجابة. من المسؤول؟ عبدو وحده؟ أم عائلته؟ أم الدولة التي لم تراقب ولم تعالج ولم تحمِ؟ أم مجتمع بأكمله يتفرج على الانهيار وكأنه مشهد على شاشة؟
الصبي السوري، اللاجئ، الفقير، لم يكن يعرف السياسة، ولا الطائفية، ولا الاقتصاد. كان فقط يريد أن يلعب، أن يضحك، أن يعود إلى حضن والده عند الغروب. لكنه لم يعد. عاد في كيس أسود، مخبأ في خزانة، برائحة الدم.
في النهاية، لا شيء أعاد الطفل، ولا شيء سيعيد الطفولة إلى بلاد أصبحت تخشى الغروب.
ملاحظة: الاسم المستخدم للمجرم هو اسم مستعار!
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة