في عالم يشهد تحولات جذرية على الصعيدين السياسي والاجتماعي، تبرز المتاحف والمؤسسات الثقافية كمرايا تعكس تناقضات المجتمع وتحدياته. كتاب “إضراب ثقافي: الفن والمتاحف في عصر التظاهر والاحتجاج” للورا رايكوفيتش، والصادر عن دار نينوى للدراسات والنشر، يسلط الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه المتاحف في تعزيز التغيير الاجتماعي، وكيفية تحولها من مؤسسات محافظة إلى منصات للثورة الثقافية.
المتاحف بين الهيمنة الثقافية والثورة
تستهل رايكوفيتش كتابها بوصف دقيق لواقع المتاحف اليوم، مشيرة إلى أنها أصبحت “مستودعات للهيمنة الثقافية”، تعكس الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، وتكرس موروثات الاستعمار والإقصاء. فالمتاحف، وفقًا لها، لم تعد مجرد أماكن لعرض التحف الفنية، بل تحولت إلى مؤسسات تعكس وتديم أنظمة السلطة القائمة. وتؤكد أن هذه المؤسسات، رغم إمكاناتها الهائلة في إحداث التغيير، غالبًا ما تساهم في إبقاء الوضع الراهن كما هو.
تحديات التمويل والحياد الزائف
تتناول رايكوفيتش التحديات التي تواجه المتاحف، خاصة فيما يتعلق بتمويلها. فالكثير من المتاحف تعتمد على تمويل من جهات مشبوهة، مثل عائلة ساكلر، التي اشتهرت بتصنيع المواد الأفيونية المسببة للإدمان. وتشير إلى أن قبول مثل هذه الأموال يجعل المتاحف جزءًا من نظام فاسد، بدلًا من أن تكون منصات للتغيير. كما تنتقد فكرة “الحياد” التي تدعيها بعض المتاحف، معتبرة أنها مجرد واجهة لإخفاء علاقات القوة والهيمنة التي تحكمها.
متحف كوينز: نموذج للصراع
تستعرض رايكوفيتش تجربتها الشخصية كمديرة تنفيذية لمتحف كوينز في نيويورك، والذي يقع في واحدة من أكثر المناطق تنوعًا ثقافيًا في الولايات المتحدة. وتصف كيف واجهت ضغوطًا سياسية واجتماعية خلال فترة إدارتها، خاصة بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وإعلانه عن نيته إلغاء سياسات العمل المؤجل للقادمين في مرحلة الطفولة (DACA). وتوضح كيف أن التزام المتحف بالحياد الظاهري أدى إلى إقصاء العديد من الفئات المهمشة، مما دفعها في النهاية إلى الاستقالة.
نحو متاحف أكثر شمولية
يطالب الكتاب بإعادة تعريف دور المتاحف، بحيث تصبح مؤسسات تخدم الجمهور بكل تنوعه، بدلًا من أن تكون حكرًا على النخبة. وتشدد رايكوفيتش على ضرورة أن تكون المتاحف مساحات للخيال الثقافي الجماعي، حيث يمكن للجمهور التفاعل مع الفن والتاريخ بطرق جديدة ومبتكرة. وتقترح أن يتم ذلك من خلال إعادة هيكلة التمويل، وتفكيك أنظمة الاضطهاد التي تحكم هذه المؤسسات.
الإضراب الثقافي: طريق للثورة
يقدم الكتاب مفهوم “الإضراب الثقافي” كوسيلة لإحداث التغيير في عالم الفن والمتاحف. وتستشهد رايكوفيتش بحركات احتجاجية نجحت في إجبار المتاحف على تغيير سياساتها، مثل الاحتجاجات ضد وارن ب. كيندرز، نائب رئيس مجلس أمناء متحف ويتني، الذي كان يمتلك شركة تصنع الغاز المسيل للدموع المستخدم ضد اللاجئين والمتظاهرين. وتؤكد أن مثل هذه الحركات تثبت أن التغيير ممكن، وأن المتاحف يمكن أن تصبح منصات للثورة الثقافية.
نحو مستقبل أفضل
تختتم رايكوفيتش كتابها بدعوة إلى إعادة تخيل دور المتاحف في المجتمع. وتؤكد أن هذه المؤسسات يجب أن تكون مساحات للرعاية والتأمل والتواصل، بدلًا من أن تكون مجرد أدوات للهيمنة الثقافية. وتشير إلى أن إلغاء أسطورة الحياد في المتاحف هو خطوة ضرورية نحو إنشاء مساحات بديلة يمكن للثقافة أن تزدهر فيها، وتصبح جزءًا من حركة أوسع للتغيير الاجتماعي.
المصادر:
– كتاب “إضراب ثقافي: الفن والمتاحف في عصر التظاهر والاحتجاج” للورا رايكوفيتش، ترجمة محمود عيسى ونوار عبدالله، دار نينوى للدراسات والنشر.
– تجارب متحف كوينز ومتحف ويتني في مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية.
– حركات الاحتجاج ضد تمويل المتاحف من جهات مشبوهة، مثل عائلة ساكلر ووارن ب. كيندرز.
فريق التحرير