كل بداية هي وقفة بين يدي المجهول.. حيث لا يملك القلب إلا أن يرتعش كعصافير الربيع الأولى. هناك، حيث تبدأ الحكاية بلا كلمات، وتنتهي بكل الكلمات.
أتُذكر؟ كنت تمشي إلى المدرسة الأولى وحدك، كأنك تحمل العالم في حقيبة صغيرة. المخافة كانت تلعق نعليك كالطين، والصديق الذي لم تكن تعرفه أمس، صار اليوم أخاً للضحكات السريفة. كانت الأيام تمضي كنهر، تحمل أوراقنا الملونة بأحلام الطفولة، ثم ترمي بنا على شاطئ المراهقة فجأة.. فنستيقظ ونحن نحمل أسماء الكبار، ونرفض أن نقر بأننا كنا يوما صغارا!
والحب؟ من يحاول وصف البدايات بالعربية؟ أول نظرة تكسر حائط الصمت بين قلبين.. أول كلمة تسقط كحبة قمح في تراب الروح.. ثم تنبت فجأة كشجرة تختلف عن كل ما رأيته من قبل. كنت تحسب أن المواعيد ستكفي لحفظ العمر في جيوب العينين، وأن الوقت سيقف عند حد القبلة الأولى.. لكن البدايات كالشمس، تشعل العالم ثم تغيب لتبقي لك ظلا طويلا.. ظلا تحتسب به دفة الحنين كلما أغمضت عينيك.
حتى الفشل كان جميلا في بدايته.. كان يأتي كصديق قاس يعلمك أن تسقط بلا صوت، ثم تقوم وأضلعك تحمل نغمات القوة. أتذكر أول دمعة لهزيمة؟ كانت تحمل ملح العالم كله، لكنها كانت تذوب في فم السنوات حتى تصير سكراً.. سكر الحكمة التي لا تأتي إلا بعد أن تبكي على أشياء كنت تحسبها نهاية العالم!
اليوم، بعد كل هذه البدايات، أعرف أن الحياة ليست إلا سلسلة من الابتداءات.. كل واحدة منها تجر خلفها ذيلا من الأسئلة: هل كان الأمس أجمل؟ أم أننا نحب أن نختلق جمالا للأشياء التي فاتتنا؟
سيأتي يوم وتجدني أحاول قراءة البدايات ككتاب مبلول بالمطر.. أمسح عن حروفه الغبار، وأحاول فك شفرة الحنين التي تختبئ بين السطور. لعلي أجد فيها بعض ما تركته على طريق العمر.. بعض ما نسيت أن أقوله لنفسي قبل أن تتكسر المرايا.. قبل أن أعرف أن البدايات ليست سوى أحلام كتبت بقلم الماء على صفحات الهواء.
فإذا ما انتهيت.. سأعود إلى بدايتي الأولى.. ألتقطها كحجر من قاع النهر، وأضعها تحت لساني.. كلعقة من الملح.. لعلها تعلمني كيف أبدأ مرة أخرى!
بقلم رئيس التحرير / حسين عباس غزالة