مدارس لبنان على أسماء الرهبان، والأسعار أسعار الشيطان.. تتردّد على ألسنة أهالٍ يشعرون أن لافتات القداسة لا تعكس رحمةً على الفواتير. هذا التحقيق يحاول تفكيك المشهد: كيف تحوّلت أقساط جزء واسع من المدارس الخاصة ذات المرجعية الدينية إلى عبءٍ يفوق طاقة العائلات؟ أين تتعطّل الشفافية؟ وما البدائل الممكنة؟
مشهد عام: خصوصية لبنانية
يرتفع وزن التعليم الخاص في لبنان تاريخيًا مقارنة بدول المنطقة. جزء مهم من هذا القطاع تديره رهبانيات ومؤسسات كنسية وإسلامية، نشأت منذ أواخر القرن التاسع عشر بوصفها حاملاً للتعليم واللغة والهوية. في المقابل، بقي التعليم الرسمي ضعيف التمويل ومتذبذب الجودة، ما دفع شرائح واسعة إلى المدارس الخاصة باعتبارها “خيارًا شبه إجباري”.
بعد 2019، انفجرت الأزمة: العملة انهارت، كلفة تشغيل المدارس قفزت (رواتب، مازوت، كهرباء، صيانة، منصّات رقمية)، فانتقلت الأقساط إلى “دولرة” جزئية أو كاملة، وتكاثرت الرسوم المساندة (النقل، القرطاسية، الأنشطة، الصندوق الحراري/الطاقة…). النتيجة: فاتورة تعليمية صارت أقرب إلى قروض سنوية تُستنزف على دفعات.
قانون 515 بين النصّ والممارسة
يُفترض أن يضبط قانون 515/1996 مالية المدارس الخاصة: موازنات مُفصّلة، نسب محدّدة للأجور والتشغيل، مشاركة لجنة الأهل، وموافقة وزارة التربية. عمليًا، يشتكي أهالٍ من:
- غياب الشفافية: موازنات تُعرض صوريًا، أو تُرسَم بأرقام عامة يصعب تدقيقها.
- رسوم “إلزامية” خارج الموازنة: مساهمات بالدولار “الفريش” لا تظهر بوضوح ضمن بنود الموازنة المُصادَق عليها.
- تضارب قوى: إدارات تمتلك خبرة محاسبية وقانونية تفوق ما لدى لجان الأهل، مع محدودية قدرة الوزارة على الرقابة الميدانية.
إداراتٌ مدرسية، بالمقابل، تقدّم حججًا وجيهة: كلفة تشغيل حقيقية بالدولار (مولدات، أقساط منصّات، صيانة مختبرات)، وسعيٌ للحفاظ على أساتذة كفوئين برواتب “قابلة للعيش” تقيهم الهجرة.
أين تذهب الأموال؟ “شريحة فاتورة” نموذجية
من مراجعة فواتير عيّنية ومن شهادات أهالٍ وإداريين (أسماؤهم محفوظة)، يمكن رسم “قالب” تقريبي لفاتورة المدرسة الخاصة اليوم:
- الراتب والتعويضات (الكتلة الأكاديمية والإدارية)
- أعلى بند. مدارس كثيرة باتت تدفع جزءًا كبيرًا بالدولار النقدي لتعويض تراجع قيمة الليرة.
- تفاوت كبير بين مدرسة وأخرى بحسب حجمها، كثافة الكادر، والسلم الداخلي.
- الطاقة والتشغيل
- مازوت/كهرباء، صيانة مولدات، ألواح شمسية وبطاريات (استثمارات تُحمّل غالبًا كلفةً مسبقة على الأهالي).
- التجهيزات والمواد
- مختبرات علوم، مواد فنية ورياضية، منصّات تعليم رقمي، تراخيص برمجية.
- نفقات “غير مرئية” لأهالي
- تأمينات، صيانة مبانٍ قديمة، رسوم رسمية، استهلاك.
- هامش احتياطي/تطوير
- بند مُبرَّر في الأصل، لكن يثير أسئلة حين يُستعمل لتبرير زيادات كبيرة دون تفصيل.
السؤال المحوري: هل تُعرض هذه البنود بشفافية، وبأرقام مُدقَّقة، وبما يتوافق مع 515؟ هنا تنشأ الفجوة.
روايات من الميدان (أسماء مستعارة)
- ليلى، أمّ لطالبين في المرحلة الابتدائية: “طُلب منّها قسط بالليرة ورسوم بالدولار، ثم ‘مساهمة طاقة منفصلة. لجنة الأهل اعترضت، لكن الإدارة قالت: إمّا هكذا أو ينقطع التيار ويضعف المستوى.
- جوزف، معلّم علوم: لولا جزء الدولار لرحلتُ. راتب الليرة وحده لا يكفي مواصلات. لكنّي أتفهّم غضب الأهل. كلّنا عالقون.
- مدير مدرسة متوسطة الحجم: نحن لسنا شركة ربحية. المولد وحده يلتهم آلاف الدولارات شهريًا. بغير هذه المعادلة، نقفل.”
الجامع المشترك: انعدام الثقة. الأهل لا يثقون بالأرقام، والإدارات لا تثق بقدرة الدولة على تمويل أو ضبط القطاع، والمعلمون لا يثقون بأن معاشاتهم تكفي لعيشٍ كريم.
الرمزية الدينية… والفاتورة الأخلاقية
تحمل المدارس ذات المرجعية الرهبانية رصيدًا معنويًا متراكمًا: تاريخ من التعليم، انضباط، نتائج أكاديمية. لكن هذا الرصيد الأخلاقي يضع عليها عبئًا إضافيًا: هل تُدار كمرفقٍ رساليٍّ غير ربحي بحقّ؟
أسئلة مطروحة داخل الأوساط نفسها:
- هل يتمّ الإفصاح علنًا عن بيانات مالية سنوية مُدقَّقة؟
- ما نسبة المنح والإعفاءات للفئات الأشدّ هشاشة؟
- هل تُراعى فلسفة “العدالة الاجتماعية” في التسعير، أم يُترك السوق يحدّد “من يستحق” المقعد؟
هنا تتخطّى القضية لغة الأرقام إلى أخلاقيات الرسالة: أن تحمل المدرسة اسم قديس لا يكفي إن كان الوصول إليها محصورًا بقديسي الجيوب.
من يَحكم اللعبة؟ ثلاث عقد أساسية
- ضعف الدولة/الوزارة: رقابة محدودة، جهاز تفتيش مرهق، وتأخّر في البتّ بالشكاوى.
- موازين قوة غير متكافئة: إداراتٌ محترفة في المحاسبة مقابل لجان أهل تطوعية.
- سوق عمل مأزوم: هجرة الكفاءات التعليمية تضغط لرفع الرواتب بالدولار، ومنها تنطلق كرة الثلج.
التعليم الرسمي… الملاذ المصاب
منطقيًا، يفترض أن يشكّل التعليم الرسمي صمّام أمان. لكنّ أزماته البنيوية (بنى تحتية، دوام متقطع، نزاع دائم حول الرواتب، نقص موارد) جعلته خيارًا “اضطراريًا” لدى كثيرين، لا “تنافسيًا”. كلما ازداد نزوح العائلات من الخاص إلى الرسمي، تفاقمت أعباء المدارس الرسمية من دون تمويل مستدام، فتدور الحلقة المفرغة.
ماذا يفعل الأهل؟ أدوات عملية
- التشدّد في تطبيق 515: المطالبة بموازنة مفصّلة ومُدقّقة تُعرَض باجتماع رسمي، ونسخة مكتوبة تحفظها لجنة الأهل.
- طلب التقارير المُحاسَبية: كشف بالتعاقدات الكبرى (طاقة/صيانة/منصّات)، وآلية المناقصة إن وُجدت.
- تفعيل اللجان: انتخاب ممثلين أصحاب خبرة محاسبية وقانونية عند الإمكان، والاستعانة بخبير مستقل عند الشكوك.
- مسارات التظلّم: تقديم اعتراضات موثّقة للوزارة، ومتابعتها خطّيًا بزمنٍ محدّد.
- التنسيق بين المدارس: شبكات أهالي لتبادل الخبرات والنماذج والاعتراضات القانونية، بدل عزلة كل مدرسة.
ماذا على المدارس؟ التزامات أخلاقية وقانونية
- نشر ملخّص مالي سنوي على الموقع: نسب الرواتب/التشغيل/الطاقة/الاستثمار/المنح.
- سياسة منح شفّافة: معايير واضحة وإعلانات دورية عن حجم الإعفاءات.
- عقود طاقة وترشيد: اعتماد بدائل أقل كلفة وطرحها على الأهل قبل إقرارها (PPA، شمسية، صيانة وقائية).
- ضبط “الرسوم الخفيّة”: دمجها في الموازنة بدل تفتيتها كبنود مبهمة.
- حوار مؤسّسي: محاضر اجتماعات مع لجان الأهل تُنشر موجزاتها.
ماذا على الدولة/الوزارة؟
- تقوية التفتيش: هيئة رقابية متخصصة بالتعليم الخاص، بصلاحيات تدقيق ومساءلة فعلية.
- بوابة شفافية وطنية: رفع موازنات المدارس الخاصة المُجازة إلى منصّة مركزية متاحة للأهالي.
- دعم مستهدف: تحويلات مشروطة للفئات الهشّة (قسائم تعليم/Vouchers) مع رقابة على الأقساط لمنع “الالتقاط” (Capture).
- إنقاذ الرسمي: خطة خمسية للبنى التحتية، الحوكمة، وتحفيز المعلمين، ليصبح خيارًا منافسًا لا ملاذًا متعبًا.
هل المدارس “تربح”؟
ليس كلّها. توجد مدارس على حافة العجز، وأخرى تملك أوقافًا تُعينها، وثالثة مرموقة تطلب أسعار “نخبوية”. جوهر المسألة ليس منع الفائض المالي المشروع للتطوير، بل فصل الرسالة عن التسليع: عندما يُصبح المقعد امتيازًا لمن يملك فقط، يَتسرّب معنى المدرسة كمؤسسة عدالة اجتماعية.
وأخيراً، بين قداسة الأسماء وشيطنة الأسعار مساحةٌ واسعة تُدعى الشفافية والعدالة. إذا التزمت المدارس بالنشر المالي المُدقّق، واحترمت الأطر القانونية، ووسّعت قاعدة المنح؛ وإذا فعّلت الدولة رقابتها وأنقذت التعليم الرسمي؛ وإذا توحّد صوت الأهالي بحجّةٍ قانونية لا انفعالًا… عندها فقط يُمكن أن تستعيد المدرسة اللبنانية رسالتها: تعليمٌ للجميع، لا سلعةٌ للقلّة.
حتى ذلك الحين، ستبقى العبارة لاذعة وصادقة: مدارس على أسماء الرهبان… وأسعارٌ تُتعب الإيمان.