في خطوة لافتة على الساحة الثقافية العربية، أصدرت الكاتبة كارين الحرّ كتابها الجديد «ت ت تَأتأة»، وهو عمل جريء وشفّاف ينطلق من التجربة الشخصية ليطرح قضية تطال شريحة واسعة من المجتمع، قضية لطالما تم التعاطي معها بالصمت أو الاستهزاء أو التجاهل.
بين السيرة الذاتية والتحليل الإنساني
يندرج الكتاب ضمن السرد الشخصي، لكنه لا يلتزم بالشكل التقليدي للسيرة الذاتية. فبدل تسلسل الأحداث، تعتمد الحرّ على مقاطع سردية قصيرة مكثّفة بالشحنة النفسية، تلتقط لحظات محددة عاشتها مع التأتأة: أول يوم مدرسة، الإحراج داخل الصف، صعوبة نطق الاسم أمام الآخرين، والخوف من قراءة جملة بصوت مرتفع.
هذا المزج بين التجربة الفردية والتأملات الداخلية يمنح الكتاب بعدًا إنسانيًا يجعل القارئ قريبًا منه حتى لو لم يختبر التأتأة يومًا.
التأتأة… اضطراب لغوي أم معاناة اجتماعية؟
تدعو الحرّ، من خلال كتابها، إلى التعامل مع التأتأة بوصفها حالة معقّدة ذات جذور نفسية واجتماعية وعصبية، لا مجرد تلعثم في الكلام. وتشدد على أن ما يثقل كاهل المتأتئ ليس صعوبة النطق بقدر ما هو نظرة المجتمع، والانتظار المتوتر من المستمع، والتعليقات الساخرة التي ترافق لحظات الكلام.
وتوضح أن الشخص المتأتئ يخوض معركتين في آن واحد:
- معركة داخلية مع الصوت والخوف والقلق من الفشل.
- معركة خارجية مع نظرة الآخرين والوصمة والأحكام المسبقة.
رسالة دعم للمتأتئين… ومساءلة للمجتمع
على الرغم من الطابع الشخصي، يحمل الكتاب رسالة توعوية واضحة. فالحرّ لا تكتفي بسرد تجربتها، بل توجه كلمات تشجيعية لكل من يعاني من التأتأة، داعيةً إلى طلب المساعدة وإلى مواجهة الخوف بدل الاحتماء بالصمت.
وفي المقابل، تخاطب القرّاء عمومًا، وتدعوهم لإعادة النظر في أسلوب التعامل مع المتأتئين، مؤكدة أن عدم المقاطعة، ومنح الوقت، والإنصات المتفهّم، خطوات بسيطة تحدث فرقًا كبيرًا في حياة من يعانون اضطرابات الطلاقة.
الكتاب كأداة لتغيير الصورة النمطية
يرى المهتمون بالشأن الثقافي أن «ت ت تَأتأة» يملأ فراغًا مهمًا في المكتبة العربية، إذ نادرًا ما تتناول الكتب العربية اضطرابات الكلام بهذه الصراحة والعمق. ويأتي الكتاب في وقت تتزايد فيه الدعوات للغوص في القضايا النفسية والاجتماعية بعيدًا عن الخجل والوصم.
وقد أثار منذ صدوره نقاشًا بين المربين والمعالجين النفسيين وأخصائيي النطق حول ضرورة وجود برامج دعم مدرسية تساعد الأطفال المتأتئين على مواجهة بيئتهم التعليمية بثقة أكبر.
حفل توقيع… ورسالة أمل
شهد حفل توقيع الكتاب حضورًا لافتًا من القراء والمهتمين، وتفاعلًا كبيرًا مع المقاطع التي قرأتها الكاتبة بنفسها، ما أضفى على الحدث بُعدًا إضافيًا وجعل صوتها المتردد يتحول إلى شهادة حية تعبّر عن معاناة الكثيرين.
خطوة أولى في مسار طويل
يشكّل «ت ت تَأتأة» محاولة واعية لكسر جدار الصمت حول اضطرابات الطلاقة، ووضع التأتأة في الواجهة بصفتها قضية إنسانية تستحق نقاشًا عامًا عميقًا. ومن خلال سردها الشفاف، تنجح كارين الحرّ في تحويل تجربتها الشخصية إلى مساحة للفهم والدعم وإعادة الاعتبار لصوت كثيرين.
ويبدو أن الكتاب سيبقى محطة أساسية لكل من يسعى إلى فهم هذه التجربة أو إلى اكتساب الشجاعة اللازمة ليقول ولو ببطء ما يريد قوله حقًا.



