تؤثّر الحروب والنزاعات المسلحة بشكلٍ مباشر على الأطفال، حيث تظهر صور الأحياء المدمرة بعد غارات العدو، ويعيش الأطفال الناجون في تلك الأحياء وسط الخراب، بعد أن فقدوا كل شيء: الأصدقاء، الألعاب، العائلة، وحتى بيوتهم التي كانت تمثل لهم الأمان. ولكن رغم كل ذلك، يظهر هؤلاء الأطفال قوة مذهلة تتحدى كل الصدمات التي مروا بها. نراهم يلعبون ويصنعون من الطوب بيوتًا وألعابًا، ليخلقوا عوالم جديدة من القوة والخيال.
القوة الداخلية لأطفال الحروب:
قصة الأطفال الناجين ليست حالات فردية، بل هي مثال حي على قدرة الأطفال على الصمود النفسي بعد الحرب. وفقًا لنظرية كارل يونغ، تنبع هذه القوة من أعماق النفس، حيث تتفاعل التجارب الفردية مع اللاشعور الجمعي، حاملًا معه رموزًا وأنماطًا (Archetypes) تساعد الطفل على مواجهة الصدمة. يبني الطفل عالمه الخاص من خلال استخدامه غير الواعي لنموذج “البطل” لمواجهة الخراب، وربما نموذج الوالدين الحاميين لحماية ذاته الداخلية.
مصادر قوة الطفل بعد الحرب:
- الخيال واللعب: اللعب هو أداة أساسية لفهم العالم والتعامل مع المواقف الصعبة. يعد اللعب ترجمة علنية لمخاوف الطفل وأمانيه، وإعادة ترتيب لتجاربه في عوالم خيالية. فكل بيت يبنيه من الطوب المكسور، وكل لوحة يرسمها، هي وسيلة للتعبير عن مشاعر مكبوتة ومواجهة الصدمات بطريقة آمنة. تشير الدراسات الحديثة إلى أن مفردات الطفل في مناطق النزاع تتحول لتعكس بيئة الخوف والعنف، حيث تتسرب كلمات الحرب إلى خطابهم اليومي، ألعابهم، ورسوماتهم. في هذا السياق، يصبح العالم الرمزي للطفل مشبعًا بمفردات العنف والموت، وهو ما يعكس حالة الصدمة الجماعية التي عانى منها الناجون.
- الدعم الاجتماعي: يحتاج الطفل إلى شخص موثوق يشعر معه بالأمان، وهذا الدعم يعزز ثقة الطفل بنفسه ويقوي إرادته للتأقلم مع الواقع الجديد. يجعل هذا الطفل أكثر قدرة على مواجهة الخطر والمضي قدمًا. في هذا السياق، يلعب الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني دورًا مهمًا في احتضان الأطفال الناجين ضمن نوادي ثقافية تعكس تجربتهم، وتوفر لهم الجو المناسب لتحرير مكنوناتهم ومشاركتها مع الآخرين كخطوة أولى نحو الاندماج والتواصل.
- الإبداع والفن: الرسم، الكتابة، الموسيقى، أو المسرح هي وسائل لتحويل الألم إلى نمو نفسي. على سبيل المثال، تصبح ألعاب “الجنود” أو “القصف” سائدة مقارنة بالألعاب التقليدية. كما أن الرسم، كوسيلة صامتة للتعبير، يعد محاولة بديلة لإيصال المعنى عندما تخذل الكلمات الطفل.
- المرونة الداخلية والتكيف التدريجي (Resilience): المرونة النفسية هي القدرة على التكيف مع الظروف الصعبة، والتعافي بعد الصدمة، واستعادة التوازن النفسي. يكتسب الطفل هذه القدرة من خلال التجارب اليومية ومواجهة الخطر بشكل تدريجي وتحويل التجربة المؤلمة إلى قوة داخلية تظهر من خلال المحاولات المستمرة لإيجاد الأمان. وفقًا لكارل يونغ، فإن مواجهة الألم والخسارة جزء من رحلة التحول النفسي (Individuation)، حيث يتعلم الفرد مواجهة ظله النفسي (Shadow) وتحويل الأجزاء المؤلمة في داخله إلى صلابة وقوة جديدة.
الطفل في عالمنا العربي ليس مجرد رمز للصلابة، بل هو أيضًا رمز للقوة والأمل الذي يولد بين الأنقاض. فهؤلاء الأطفال هم نواة جيل يبني عالمه الخاص من بقايا عالمٍ انهار حولهم. هذه الرحلة ليست مجرد مقاومة خارجية، بل هي رحلة داخلية نحو القوة والتحول الذاتي، حيث يجعل الألم نقطة انطلاق نحو النضج النفسي والوعي الداخلي، وربما حتى لإحداث أثر عالمي مستقبلاً.