يشكّل فقدان أحد الوالدين أو كليهما في مرحلة الطفولة تجربةً وجودية عميقة الأثر، تتجاوز حدود الحزن إلى ما يمكن اعتباره صدمة نفسية تأسيسية. فالطفل لا يفقد شخصًا عزيزًا فحسب، بل يبدأ رحلة طويلة من الإحساس بانعدام الأمان وتزعزع الانتماء إلى عالمٍ مستقر. إنّ هذا الفقد لا يمسّ الجانب العاطفي فقط، بل يمتدّ إلى البنية النفسية والسلوكية والاجتماعية للطفل في مراحل نموّه اللاحقة.
تتناول هذه الدراسة تحليل أبعاد الصدمة النفسية الناتجة عن فقدان الأهل عند الطفل، واستعراض أبرز انعكاساتها على النمو النفسي والاجتماعي، مع محاولة تحديد أهم آليات التكيّف الممكنة التي تساعد الطفل على تجاوز هذا الحدث المفصلي.
أولاً: المنظور التحليلي لصدمة الفقد
يرى فرويد في مقالته الحداد والمالنخوليا أن الفقد يخلّف جرحًا نرجسيًا عميقًا، إذ يُجبر الفرد على إعادة بناء ذاته بعد انكسار العلاقة مع الموضوع المحبوب.
أما جون بولبي (1980)، ومن خلال نظرية التعلّق، فيؤكد أن الانفصال المبكر عن الأم أو الأب يهدد الإحساس بالأمان، ويؤدي إلى اضطرابات في أنماط التعلّق لاحقًا.
وفي ضوء هذا المنظور، يتجلّى الفقد عند الطفل كـ انهيار في العلاقة الأساسية التي تمنحه معنى الوجود والاستقرار العاطفي.
ثانياً: المنظور التنموي
يُظهر إريكسون في نظريته حول المراحل النفسية–الاجتماعية أن فقدان الأهل في المراحل الأولى من النمو يعرقل تكوين الثقة الأساسية التي تمثّل قاعدة النمو النفسي السليم.
ويضيف بياجيه أن الطفل قبل سنّ الثامنة لا يدرك الموت كحقيقة نهائية، بل يراه غيابًا مؤقتًا، مما يجعله يعيش حالة من الارتباك والإنكار قبل أن يتمكّن من استيعاب الفقد وفهم معناه الحقيقي.
ثالثاً: المنظور الاجتماعي والثقافي
يتأثر تعبير الطفل عن الحزن وسلوكه بعد الصدمة بالإطارين الاجتماعي والثقافي المحيطين به.
فالثقافات التي تسمح بالتعبير الحر عن المشاعر تسهّل عملية الحداد، في حين أن البيئات التي تميل إلى الكبت والإنكار تدفع الطفل إلى الصمت والانطواء.
كما تلعب المدرسة والمؤسسات الاجتماعية دورًا أساسيًا في توفير الرعاية النفسية والتعليمية البديلة، خصوصًا في حالات اليتم الكامل.
الآثار النفسية والسلوكية لفقدان الأهل
1. الآثار النفسية
تشير الدراسات إلى أن فقدان الأهل يؤدي إلى:
اضطرابات في النمو العاطفي وتراجع الإحساس بالأمان.
ميول إلى القلق والعزلة والاكتئاب.
اضطرابات في التعلّق بالشخص البديل أو رفض إقامة علاقات جديدة خوفًا من فقدانها.
التبلّد العاطفي كآلية دفاعية لا واعية، حيث يتوقف الطفل عن التعبير لتجنّب الألم النفسي.
2. الآثار السلوكية والاجتماعية
قد يتجلّى الفقد في:
عدوانية سلوكية أو تراجع في الأداء الدراسي.
نضج مبكر وتحمل مسؤوليات تفوق العمر الزمني.
عزلة اجتماعية أو تبعية مفرطة للآخرين، تبعًا لنمط الشخصية والدعم المحيط.
آليات التكيّف وإعادة البناء النفسي
تُعدّ عملية التكيّف مع الفقد مسارًا طويلًا ومعقّدًا يتأثر بعوامل عديدة، منها العمر والجنس وطبيعة العلاقة ومستوى الدعم الاجتماعي.
ومن أهم آليات المساندة:
1. اللعب العلاجي (Play Therapy):
وسيلة علاجية تمكّن الطفل من التعبير عن مشاعره المكبوتة بطريقة رمزية وآمنة.
2. الدعم العاطفي المستمر:
وجود بالغٍ حاضن (من الأقارب أو المربين أو المعلمين) يمنح الطفل شعورًا بالثبات والانتماء.
3. العلاج النفسي الجماعي:
يتيح تبادل الخبرات بين الأطفال الذين مرّوا بتجارب مشابهة، ويخفف الإحساس بالعزلة.
4. السرد وإعادة بناء المعنى:
تمكين الطفل من رواية قصته بلغة تناسب وعيه يساهم في إعادة تنظيم التجربة داخليًا، وتحويلها من جرحٍ مفتوح إلى ذكرى يمكن التعايش معها.
إنّ صدمة الفقد ليست حدثًا عابرًا في السيرة النفسية للطفل، بل تجربة وجودية تُعيد تشكيل حياته بأكملها.
غير أن آثارها ليست حتمية؛ فبتوفير الرعاية النفسية والاجتماعية الملائمة يمكن تخفيف حدّتها ومساعدة الطفل على النمو بطريقة متوازنة.
إنّ الاستثمار في الدعم النفسي للأطفال اليتامى لا يُعدّ مجرّد واجب إنساني، بل هو فعل وقائي يحمي المجتمع من أجيالٍ تعيش جراحها بصمت طويل.