تكشف أحدث البيانات المتعلقة بتجارة المخدرات في سوريا عن حقيقة صادمة: هذه التجارة ليست مرتبطة بنظام سياسي بعينه، بل بشبكة إقليمية معقدة تتجاوز الحدود والأنظمة السياسية. ورغم الاتهامات التي وُجّهت إلى النظام السابق وأجهزته الأمنية والعسكرية بتسهيل “اقتصاد المخدرات”، فإن تجارة الكبتاغون استمرت بقوة بعد أشهر من تولي الحكم الانتقالي السلطة. هذه الحقائق تثير العديد من التساؤلات حول الجهات الفاعلة التي تدير هذا الاقتصاد الذي يزداد تعقيداً يوماً بعد يوم.
في عام 2023، سجلت السلطات السورية ضبط نحو 1674 كيلوغراماً من مادة الكبتاغون. لكن في الأشهر العشرة الأولى من عام 2024، قفزت هذه الأرقام بشكل لافت، حيث تجاوزت الكميات المضبوطة 13763 كيلوغراماً. هذا يعني أن حجم المضبوطات في عشرة أشهر فقط تجاوز ثمانية أضعاف ما تم ضبطه في مجمل العام 2023. هذه الأرقام الضخمة لا يمكن تفسيرها إلا في إطار تجارة منظمة تستهدف أسواقاً خارجية، خاصة في دول الخليج، التي تمثل الوجهة الأساسية للكبتاغون المنتج في سوريا.
خارطة التهريب: من الساحل إلى البادية
تشير التقارير إلى أن تجارة المخدرات في سوريا لم تعد مقتصرة على مناطق معينة، بل أصبحت تغطي جميع أطراف البلاد. من الشمال (اللاذقية وحلب على الحدود التركية)، إلى الجنوب (درعا والسويداء على الحدود الأردنية)، وصولاً إلى الغرب (ريف دمشق وحمص على الحدود اللبنانية)، وحتى الشرق (معابر البادية على الحدود العراقية). وهذا الانتشار الجغرافي الواسع يكشف عن طبيعة تهريب المخدرات التي تتسم بالمرونة والقدرة على التكيف مع الأوضاع المتغيرة في سوريا.
من يدير شبكات المخدرات بعد تغيّر السلطة؟
تتكاثر الفرضيات حول الجهات التي تقف وراء إدارة اقتصاد المخدرات في سوريا. ويمكن تلخيص السيناريوهات المحتملة في إطارين رئيسيين:
- شبكات مستقلة تعمل بعيداً عن أي تحكم مركزي.
- استمرار المنظومة القديمة، حيث تشكل بعض الأطراف النافذة في النظام السابق رأس الحربة في هذه التجارة.
سواء كانت الشبكات مستقلة أو امتداداً للمنظومة القديمة، فإن واقع الحال يشير إلى منظومة متكاملة لها منطقها وقواعدها الخاصة. هذه الشبكة تستغل الجغرافيا المفتوحة والفراغ السياسي والانهيار الاجتماعي والاقتصادي لتنشئ ما يشبه “دولة ظل” تحيا بفضل المال الأسود. لم تعد تجارة المخدرات في سوريا مجرد مسألة جنائية أو أمنية، بل أصبحت جزءاً من اقتصاد سياسي موازٍ، يتغذى على غياب الدولة وسياسة الفوضى.
الاقتصاد الأسود: مكونات المنظومة
يتشابك هذا الاقتصاد المظلم مع أطراف متعددة: أمراء حرب، شبكات تهريب منظمة، جماعات مسلحة، وشخصيات نافذة حولت نفوذها السياسي إلى مكاسب في السوق السوداء. هذه الأطراف تمثل العصب الرئيس الذي يدير هذه التجارة المربحة، والتي تساهم في تعزيز قوة الأطراف المتورطة في استمرار النزاع السوري.
مع تعقّد الوضع السوري وتغير مراكز القوة السياسية في البلاد، يبدو أن شبكة الكبتاغون ستكون أكثر صعوبة في محاربتها. فالتحولات السياسية لم تُنهِ هذه المنظومة، بل دفعها إلى إعادة الانتشار وتغيير مراكز ثقلها، مع الحفاظ على علاقات تاريخية مع أطراف نافذة في دول الجوار، لا سيما في المناطق الحدودية.
ختاماً، إن الأرقام المتزايدة والانتشار الواسع لتجارة الكبتاغون في سوريا تكشف عن واقع مرير، حيث باتت تجارة المخدرات جزءاً لا يتجزأ من اقتصاد موازٍ يستغل الفوضى السياسية والاجتماعية. ورغم المحاولات المتعددة للحد من هذه التجارة، يبقى المستقبل غير واضح، في ظل استمرار استغلال شبكات التهريب وتورط أطراف إقليمية ودولية.