فجر السبت، دوّى انفجار كبير في منطقة المصيلح جنوب لبنان، بعدما شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي سلسلة غارات استهدفت مؤسسات صناعية ومعارض لبيع وصيانة الجرافات الزراعية، ما أدى إلى دمار واسع وسقوط عدد من الضحايا.
لم يكن هذا الهجوم حدثًا معزولًا، بل حلقة جديدة في مسلسل التصعيد الإسرائيلي ضد الجنوب اللبناني، في وقت يفترض فيه أن يسود اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه عقب حرب غزة أواخر عام 2024.
الهجوم الأخير، الذي وصفته وكالة الأنباء اللبنانية بأنه “الأكبر على منطقة اقتصادية منذ انتهاء الحرب”، أعاد إلى الأذهان مشاهد الدمار التي عاشها لبنان خلال الحرب الشاملة التي شنّتها إسرائيل في خريف العام الماضي، وأسفرت عن آلاف القتلى والجرحى. ومع أن الغارة استهدفت منشأة مدنية، إلا أن الجيش الإسرائيلي تحدث عن “بنى تحتية لحزب الله”، في تكرار لمبرر يستخدم منذ سنوات لتبرير الاعتداءات على الأراضي اللبنانية.
رسائل إسرائيلية متعددة
تسعى إسرائيل من خلال هذا التصعيد إلى توجيه رسائل مزدوجة:
- أولاً، أنها ما زالت تملك حرية العمل العسكري في الجنوب، ولا تعتبر نفسها مقيّدة بأي اتفاق لوقف النار.
- ثانيًا، أنها تريد الضغط على حزب الله ومنعه من استغلال مرحلة الهدوء النسبي لإعادة التموضع أو تطوير قدراته العسكرية.
لكن اللافت هذه المرة أن الاستهداف طال منشآت اقتصادية ومدنية، وهو ما يكشف عن توجه جديد لضرب البيئة الحاضنة للمقاومة ومعاقبة المجتمع المحلي، في محاولة لعزل الحزب عن محيطه الشعبي.

ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية القديمة لم تنجح في الماضي، ومن غير المرجّح أن تنجح الآن، بل قد تؤدي إلى نتائج عكسية تزيد من التعاطف الشعبي مع المقاومة.

شهادات من الميدان
في محيط الغارات، تضررت عشرات المحال والمؤسسات التجارية جراء الانفجارات القوية التي هزّت المنطقة.
من بين المتضررين، غاليري فقيه، وهو معرض فني وتجاري قريب من موقع الاستهداف.
صاحبه، السيد علي نبيل فقيه، تحدّث بمرارة إلى موقع المسمار قائلاً:
“نحمد الله على ما أصابنا، ولكن يعزّ علينا أن نشعر بالوحدة، وكأننا قطعة مجتزأة من لبنان. لا أحد سأل عنا أو تواصل معنا من الجهات الحكومية.
أرزاقنا تدمرت، ولكن الله يعوّض. نحن أمام عدو غدّار ونعرف هذا الشيء، ولكن الصعب هو أن نجد أنفسنا وحيدين. رحم الله الشهداء والشفاء العاجل للجرحى.”
كلمات فقيه تختصر شعور الجنوبيين اليوم، بين الألم المادي والخذلان المعنوي، في ظل غياب أي تحرك رسمي جدي يوازي حجم الكارثة.
صمت حكومي مثير للقلق
أثار صمت الحكومة اللبنانية وغياب الموقف الرسمي الحازم استياءً واسعًا في الشارع. فقد اكتفى الرئيس جوزيف عون بإدانة “العدوان الإسرائيلي السافر” والتنديد باستهداف المنشآت المدنية، محذرًا من خطورة التوقيت الذي جاء عقب اتفاق وقف الحرب في غزة.
إلا أن البيان الرئاسي، على أهميته، لم يترافق مع خطوات سياسية أو دبلوماسية ملموسة، في ظل حالة الشلل التي يعيشها النظام السياسي اللبناني، بين حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات وانقسام داخلي حول موقع لبنان من الصراع الإقليمي.
هذا الغياب الفعلي للدولة يجعل الجنوب مكشوفًا، ويترك المبادرة في يد أطراف أخرى، في وقت تتفاقم فيه معاناة السكان الذين يعيشون منذ أشهر تحت الخطر، بين النزوح والخسائر الاقتصادية المتراكمة.
الجنوب بين النار والفقر
يدفع الجنوب اللبناني اليوم ثمن الصراع الإقليمي والسياسي أكثر من أي وقت مضى. فبين دمار متكرر، وبطالة متفشية، وتراجع الاستثمارات الزراعية والصناعية، أصبح الأهالي في مواجهة خطر مزدوج: القصف من جهة، والإفقار من جهة أخرى.
ومع غياب الدولة، وانشغال الطبقة السياسية بالمصالح الخاصة والصراعات الداخلية، يشعر المواطن الجنوبي أن دمه ومعيشته خارج حسابات السلطة، وأن الأمن الوطني أصبح رهينة التجاذبات والولاءات.
درس المصيلح
تفجير المصيلح ليس مجرد حادثة أمنية، بل إنذار واضح بأن لبنان يقف عند مفترق طرق خطير.
إما أن يتوحد الموقف الوطني حول حماية السيادة وكرامة المواطنين، أو يواصل الانقسام والصمت الذي يسمح للعدو الإسرائيلي بفرض معادلاته على الأرض.
الجنوب ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل هو قلب لبنان.
وحين يُستهدف هذا القلب، لا يمكن لأي حكومة أن تلوذ بالصمت دون أن تفقد ما تبقى من شرعيتها أمام شعبها.