في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، دخلت أوروبا مرحلة جديدة من التسلّح والتعبئة الدفاعية. لم تعد الأمور تقتصر على دعم مستقل لأوكرانيا أو مجرد رسالة سياسية، بل تحوّلت إلى تمدُّد صناعي ودولي لتحوّل عسكري يُعيد رسم أولويات القارة. ضمن هذا السياق، تلعب ألمانيا الدور المحوري، ويبرز البُعد الاقتصادي والطاقة كخلفية لا تقل أهمية عن الجبهات العسكرية.
تُعدّ ألمانيا اليوم أهم لاعب أوروبي في إعادة التسلّح. فقد أعلنت برلين أنها ستزود أوكرانيا بأسلحة طويلة المدى بحلول نهاية تموز 2025.
كما ورد أن مصانع الدفاع الأوروبية تتوسّع بمعدّل ثلاثة أضعاف منذ بدء الحرب الروسية-الأوكرانية. على سبيل المثال، شركة الدفاع الألمانية Rheinmetall تشهد طفرة في الإنتاج – مع مصنع جديد في أوكرانيا ومشروعات مشتركة مع دول أوروبية.
هكذا، أصبح التسلّح جزءًا من استراتيجية ألمانيا لتأمين موقعها في أوروبا ولتعزيز قدراتها الدفاعية. لكن الأمر لا يقتصر على الدفاع – بل يشير إلى رغبة في قيادة أوروبية تُقلّل الاعتماد على روسيا وفي الوقت نفسه تبني منظومة دفاعية ذاتية
على مستوى الاتحاد الأوروبي، نشهد تحوّلاً ملموساً نحو «إعادة التسلّح» (Re-Arm Europe). وفق تحليلات، الدول الأوروبية تسعى إلى تعبئة ضخمة في الإنفاق الدفاعي، وإلى رفع الإنتاج المحلي من الذخائر والأسلحة، بسبب إدراك أن الاعتماد طويل الأمد على المساعدات الأميركية أو على مخزونات قديمة ليس كافياً.
من جهة أخرى، يرى بعض المراقبين أن هذه الاستراتيجية لا تُخفي بعدًا آخر: وهو استغلال الأزمة الروسية من جهة، واستعادة أوروبا دورها في مجال الطاقة والموارد من جهة ثانية. فاستنزاف روسيا اقتصادياً ووقوف أوروبا بوجهها يمنح للأوروبيين مزيداً من النفوذ في ملفات الطاقة والغاز التي كانت روسيا تسيطر عليها.
في عام 2024، دفع الاتحاد الأوروبي مليارات لأجل واردات الطاقة الروسية رغم الحرب – ما يدلّ على مدى تعقيد العلاقة بين العداء العسكري والاعتماد الاقتصادي. وفق تحليل، بلغت واردات أوروبا من الوقود الأحفوري الروسي نحو 22 مليار يورو في 2024، بينما الدعم المالي لأوكرانيا أقل قليلاً.
ما يلفت النظر هنا: أوروبا التي تدعم أوكرانيا عسكرياً في مواجهة روسيا، لا تزال في حصار شبه مباشر من الغاز الروسي – وبالتالي فإن التسلّح يفترض استعادة ليس فقط القدرة العسكرية، بل السيطرة على مفاصل الطاقة التي كانت روسيا تجيد استخدامها كأداة ضغط.
من زاوية أوسع، يمكن القول إن أوروبا تسعى إلى تفكيك النفوذ الروسي عبر محورين:
1. المواجهة العسكرية: عبر تزويد أوكرانيا وتهيئة أوروبا لمواجهة محتملة عبر الحدود الشرقية.
2. الاستحواذ على الموارد: عبر تقليص اعتمادها على الغاز الروسي، وتنويع مصادر الطاقة، واستغلال هذه الأزمة لتعزيز موقعها التفاوضي.
في هذا الإطار، التسلّح ليس هدفاً بحد ذاته، بل وسيلة لإعادة التوازن – فروسيا التي فقدت معظم أوروبا السوقية للغاز وتحاصرت عسكرياً، تصبح أقل قدرة على استخدام الطاقة سلاحاً.
رغم الزخم، فإن أوروبا تواجه معوقات عديدة. فبحسب دراسة، قد تتأخّر أوروبا سنوات عدة قبل أن تتمكن من مضاهاة روسيا في بعض مقاييس الإنتاج والقدرة العسكرية.
كما أن البنية الصناعية الأوروبية تحتاج إلى تجنيد حقيقي: ليس فقط تصنيع الأسلحة، بل أيضاً التحديث اللوجستي، والتدريب، والقيادة، والتنسيق عبر الدول.
من جهة الطاقة، رغم الانخفاض الكبير في واردات الغاز الروسي عبر الأنابيب، إلا أن أوروبا لا تزال تبحث عن بدائل حقيقية ومستقرة، ما يجعل الأزمة الروسية-الأوروبية تمتد لأكثر من المنظور العسكري.
إن التسلّح في ألمانيا وأوروبا اليوم ليس مجرد إجابة فورية على الحرب في أوكرانيا، بل هو إعادة تموضع استراتيجي طويل الأمد.
ألمانيا تتصدر المشهد، والاتحاد الأوروبي يبني صناعة دفاعية محلية، وفي الخلفية تحاول أوروبا كسر هيمنة روسيا على الطاقة والموارد.
إذا نجحت هذه الرؤية، فقد نرى في السنوات المقبلة قارة أوروبية أقل اعتماداً على روسيا، وأقوى عسكرياً – لكن الطريق لا يزال طويلاً، والمخاطر كبيرة.
أما إذا فشلت، فقد تتحول هذه التعبئة الدفاعية إلى تكلفة باهظة دون تحقيق الهدف المنشود.




